عمال مرفأ اللاذقية يدافعون عن حقوقهم وعن الاقتصاد الوطني.. لماذا الإصرار على سلب المكاسب التي تحققت بالعرق والجهد والصبر؟
ما من بلد في العالم إلا ويطمح أبناؤه المخلصون أن يكون بلداً قوياً مزدهراً في كل شيء، زراعته، صناعاته وخدماته، وفي مستوى معيشة أفراده.
وتسعى حكومته بكل ما أوتيت من فهم سياسي ودبلوماسي، ومن حكمة وحنكة وتجارب، لتحقيق الرفاه لشعبها والارتقاء به إلى مصاف الشعوب المتحضرة وتقليل الفوارق الطبقية فيه.
ولكن (عولمة) العصر، قد بهرت أبصار وعقول المترفين الجدد، فرأوا فسادها إصلاحاً، وبهرجتها حضارة، وظلمها رحمة، ووصفاتها تطويراً، واستغلالها رفاهاً ورخاءً، فانجرف ذوو المصالح في مجراها، وطوعوا من أجل نشرها ما كان عصياً، وحللوا لها المحرم، وحرموا المحلل، ويبقى السؤال الكبير دائماً في ألسنة الجماهير الشعبية: إلى أين نحن ذاهبون؟
أدبيات حزبنا تؤكد في المنهاج المرحلي، على تطوير وتوسيع القطاع العام، وذلك عن طريق تأسيس صناعات جديدة، وإنشاء صناعات مساعدة للصناعات الحالية، ليقود هذا القطاع حركة التنمية الاقتصادية في كافة المجالات. وتؤكد أنه إن كان من المسموح وجود قطاع خاص، فإنه يجب أن يكون ثانوياً لا رئيسياً، وأن يكون منقاداً لا قائداً، وأن ينسجم مع خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأنه يجب أن يحصل على دخله عن طريق العمل والنشاط والمبادرة والابتكار، وأن يعتبر أساليب الاستغلال والاحتكار والتلاعب منتهية إلى الأبد.
دستور البلاد في مادته الرابعة عشر، اعتبر الثروات الطبيعية والمرافق العامة والمنشآت والمؤسسات المؤممة، أو التي تقيمها الدولة وتتولى استثمارها والإشراف على إدارتها، ملكاً للشعب، وواجب المواطنين حمايتها، وقد أكد رئيس الجمهورية في كل مناسبة، على التمسك بالثوابت وعدم التفريط بالحقوق.
فريقنا الاقتصادي يرى خلاف ذلك، ويقفز فوق كل المبادئ والثوابت، ويصر على مسح كل الإنجازات والمكتسبات، وتحويل قطاعنا العام إلى منشآت خاصة بيد شركات عربية وأجنبية، بذريعة الإصلاح، ونراه يملك الوسيلة لتجنيد المؤيدين، لقدرته على قلب الصور، على غير وجهها، وإقناع الآخرين بصحة عمله، أو لأسباب أخرى خفيّة تجعل المعارضين أنصاراً.
عندما يكون الهوس بالشيء على غير الصواب، ولا يخدم الأهداف العامة، ولا يؤدي إلا لمزيد من ظواهر الفساد والتحلل من القيم، ولا يصب إلا في خدمة المتربصين بالوطن والمتآمرين عليه، فإنه لا يسعنا إلا أن نكون في صف الرافضين لهذا التوجه، الذي يزيد من معاناة شعبنا ومن فقره وقهره واختناقه وضنك معيشته.
قد خصخص هذا الفريق حتى الآن معظم منشآتنا العامة، وكان آخرها بعض المصانع التي وضعت في الاستثمار، والتوكيلات الملاحية في مرفأ طرطوس، وصولاً إلى مرفأ اللاذقية. وبالنظر لأهمية هذا المرفأ فقد أُدرج مشروع خصخصته في برنامج الأمم المتحدة للتنمية والتطوير، وفريق خبرائها الـ(undp)، هو الذي وضع مسودة الاتفاق، تحت عنوان: «عقد التزام لإدارة واستثمار الحاويات في مرفأ اللاذقية»، والهدف المعلن منه هو: «تحديث المرافئ السورية».
ولكن من يتفحص مسودة العقد، يجده عقد إذعان بامتياز، ينتفي فيه توازن المصالح، ويخضع المرفأ لسيادة شركة أجنبية للأسباب التالية:
1 ـ أعطي الحق الحصري للشركة المستثمرة في كل ما يتعلق بخدمات العمل والهجرة، والحوافز والحقوق وخطة الأجور وشروط العمل، وتشغيل العاملين الدائمين والمؤقتين، ووضع التعرفة والرسوم، وتحصيل رسوم الخدمات، واستئجار واستخدام وإشغال الوحدات السكنية العائدة للمرفأ، في إطار تعابير مطاطة وغامضة، خلافاً لصيغ العقود، ليتيح للشركة المستثمرة عند حدوث أي خلاف قدرة التملص من أية مسؤولية والالتفاف عليها.
2 ـ أعطى الشركة المستثمرة حق تعليق تقديم ضماناتها وكفالاتها، بشرط أن تقوم شركة المرفأ بتأهيل وتحسين وصيانة وتجديد وتطوير البنى التحتية، والمباني والمرافق قبل استلامها.
فإذا كان الهدف هو تحديث المرافئ السورية، فما علاقة إدارة المرفأ بهذا الالتزام، وكيف نصدق بهذا التحديث الذي تمنينا به الشركة المستثمرة، إذا كانت شركة المرفأ هي التي ستقوم بالتحسين والتجديد والتطوير؟.
3 ـ ألزم العقد شركة المرفأ بالموافقة على تمديد عقد الاستئجار بعد انتهائه، وهو عشرة أعوام، مدة خمس سنوات أخرى، كما ألزمها بتمديده بعد الخمس سنوات لفترات أخرى تحت عناوين وأسباب لا يمكن لأحد يتحكم بها أو يحددها، كالقوة القاهرة وتبدل الظروف، أو ظروف غير متوقعة كالأعمال الحربية والحروب المعلنة وغير المعلنة، والنزاع المسلح والغزو والحصار والمقاطعة والثورات وأعمال الشغب والعصيان المسلح والعصيان المدني والأعمال الإرهابية والأنشطة السياسية، وهذا الشرط يضمن بقاء هذه الشركة في استثمارها ما بقيت هذه الأسباب قائمة.
4 ـ ألزم العقد الشركة المستثمرة، وهو الإلزام الوحيد لها في العقد، بدفع مبلغ ثلاثمائة ألف دولار أمريكي فقط، عند توقيع العقد، ثم بعد ذلك تدفع أجوراً سنوية متغيرة، حدده في السنة الأولى بنسبة 5% من الدخل الإجمالي وكل سنة تلي الأولى تكون وفقاً للصيغة التالية: (vfn=vfn - 1×Rn – Rn – 1) وهذه الصيغة المطلسمة لا يفهمها إلا الله والمتفقون بموجبها على الأجر، ولكننا نستطيع القول في ضوء الأجر المدفوع عند الاستلام، أننا سلمنا مرفقاً حيوياً هاماً هدية لشركة أجنبية، دون النظر للانعكاسات السلبية على الصعيد السياسي والأمني والاجتماعي.
5 ـ خول العقد الشركة المستثمرة بأن تتكيف بتقديم كفالاتها لشركة المرفأ، ولها أن تعلقها مشروطة بإنجاز التحسينات المطلوبة من المرفأ، ولها أيضاً الحق بتعديلها بنسبة التضخم الاقتصادي، على أساس معدل التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية، استناداً إلى مؤشر سعر المنتج الرسمي الذي تصدره غرفة التجارة الأوربية في باريس، فهل هذا كلام يقبله العقل؟
6 ـ منح العقد الشركة المستثمرة صفة الجهة العامة، لتستفيد من الميزات الممنوحة للقطاع العام، ويحررها من التزاماتها تجاه العمالة السورية التي تستخدمها، وألزم حكومة الجمهورية العربية السورية بمنح تصاريح الإقامة والتشغيل لليد العامة الأجنبية التي ستستقدمها، دون أن تبين حدود هذه العمالة، ما يشكل ثغرة في مسودة العقد ليست بصالح العمالة السورية، كما ألزمها بتأمين الكادر الأمني اللازم، وعلى نفقاتها، لتوفير الحماية لهذه الشركة.
7 ـ ألزم العقد شركة المرفأ بتأمين الموافقات المطلوب إصدارها من الجهات الحكومية، ومن بيتها تصريح صادر عن مصرف سورية المركزي، بالموافقة على قروض عائدة لمشروع يعمل بتمويل مصدر أجنبي، والموافقة على احتفاظ هذه الشركة بحساب مصرفي خارج سورية بالعملة الصعبة، ما يبين أن التطوير الذي نص عليه العقد ليس هدفاً، وإنما الهدف هو احتكار العمل في مرفأ اللاذقية، لتنجح تجربة استثمار مرفأ طرطوس التي أثبتت فشلها، ومن غير احتكار العمل في المرفأين معاً، لا يمكن أن تتحقق المصالح الاقتصادية للشركة المستثمرة، وللشركة المستثمرة في طرطوس.
8 ـ ورد في العقد النص التالي: (ستقوم الشركة العامة لمرفأ اللاذقية من تاريخ الاستلام، بنقل الملكية الحرة لإدارة شركة الحاويات وحق المرور والدخول إليها). وهذا النص يدل دلالة قاطعة على أن العقد ليس عقد شراكة، كما جاء في عرض شركة المرفأ، بل هو عقد تنازل وتمليك، تحت عنوان الإدارة والاستثمار.
9 ـ كل الأخطار الطارئة تقع على ضمانة شركة المرفأ، وللشركة المستثمرة حق تمديد العقد المدة اللازمة للتخلص من هذه الأخطار، وحق التعويض عليها تجاه أية نفقات أو مصاريف تتكبدها لإعادة تأهيل المحطة، من نتائج أية أخطار تكتشفها بعد الاستلام.
10 ـ أعفى العقد الشركة المستثمرة، من أية مسؤولية ناشئة عن ظروف قاهرة، أو لدى خرق الجهة المانحة لأحكام هذا العقد، أو بسبب اتخاذ إجراءات بموجب هذا العقد بقصد ضمان سلامة المحطة وعمليات الصيانة، أو بسبب استجابة الشركة لطلب الجهة المانحة (المرفأ) أو أية سلطة ولأي غرض يحتم إغلاق المحطة جزئياً أو كلياً، بينما أعطى العقد الشركة المستثمرة حق إغلاق المحطة أو اتخاذ أي إجراء تراه ضرورياً دون أن يرتب على تصرفها أية مسؤولية.
11 ـ منح العقد الشركة المستثمرة حق احتكار إنجاز تقارير نشاط وعمليات المحطة دون أية رقابة من قبل إدارة المرفأ، وأي خلاف ينشأ في حجم الحركة، يكون لها وحدها حق تبريره.
12 ـ أعطى إدارة المحطة حق مساواة عمال المرفأ المنقولين للعمل لديها، مع من تستخدمهم حديثاً، دون مراعاة قدمهم وحقوقهم القانونية المكتسبة، وليس لشركة المرفأ حق التدخل بخيارات إدارة المحطة، بهوية الأفراد الذين تنتقيهم من الخارج، مهما كان السبب جوهرياً، ولم يعط الاتفاق للتنظيم النقابي أي دور لحماية حقوق هؤلاء العمال، أو لفض الخلافات الناشئة بينهم وبين إدارة المحطة.
13 ـ المضحك المبكي أن العقد مسَّ بالكرامة الوطنية، حين أوجب على الحكومة أن تثبت أنها لم تخالف يوماً، اتفاقية وقعت عليها ونكلت بشروطها، لئلا يكون هناك تأثير على صلاحياتها في ممارسة التزاماتها، وأنها ليست عرضة لملاحقات أو دعاوي قضائية، أو مطالبات أو تحقيقات أو إجراءات محاكم، من شأنها أن تؤثر على مصداقيتها وقدرتها على ممارسة التزاماتها، وكذلك الجهة المانحة (المرفأ)، وهذا الشرط يحقق للشركة المستثمرة دوام الاستثمار مادام قطرنا مهدداً أو هدفاً للحصار والمقاطعة وتهمة الإرهاب، أو معرضاً لملاحقة المحكمة الدولية المعنية بمحاكمة المتهمين باغتيال الحريري، ولو كان اتهامها فيه، يقع في دائرة الاتهام السياسي.
وغير ذلك الكثير من الشروط التي تمليها الشركة المستثمرة، على شركة المرفأ وعلى الحكومة، لا يتسنى لنا تفصيلها كلها، لأن العقد يقع ضمن 93 صفحة، وعرض شركة المرفأ 46 صفحة، وملاحق بحدود إحدى عشرة صفحة، ولكنها تصب في خدمة مصلحة الشركة المستثمرة. والتطوير المزعوم إن هو إلا غطاء لتحقيق مصالح فردية، على حساب السيادة الوطنية والحياة الاجتماعية والاقتصادية.
فهل من سبب يدعونا للتنازل عن شركاتنا ومعاملنا ومرافقنا للمستثمرين؟ وهل يجري مثل هذا النمط من الاستثمار في الدول الأوروبية؟ وإذا كان التطوير هو الهدف، فلماذا لا يقيم هؤلاء المستثمرون مصانع ومشاريع جديدة، والساحل السوري طوله أكثر من 180كم؟!
لماذا لا ينشئون مرفأ متخصصاً للحاويات؟ ولماذا هذا الإصرار للاستيلاء على مكتسباتنا التي حققناها بالعرق والصبر والجهد؟! ألا يحق لنا أن نتساءل أمام الواقع الاجتماعي المر الذي يواجهه مواطنونا من بطالة وفقر وتدن للأجور وارتفاع للأسعار، جراء هذه الاستثمارات والاتفاقات، التي لم تزد الفقراء إلا فقراً لصالح قلة من الموسرين؟!