البطالة لا يحجبها الغربال!
يدور نقاش واسع في الدول الصناعية المتقدمة حول مفهوم البطالة وأنواعها، وتذهب الاتجاهات الليبرالية الجديدة إلى تعريف البطالة بأنها ظاهرة طبيعية ترافق التطورات الحاصلة في الاقتصادات الحديثة سريعة التغير، الأمر الذي يفرض ديناميكية على سوق العمل ينجم عنها تعطل مؤقت لجزء من اليد العاملة إلى حين تأقلمها وإعادة اندماجها في قوة العمل المنتجة.
هل هذا التعريف للبطالة يطال فقط الدول المتقدمة صناعياً، أم يطال الدول النامية التي يجري فيها تطبيق السياسات الليبرالية وفقاً لظروف كلا منها، ومنها بلدنا سورية؟
لقد خضعت مؤشرات البطالة على مدار عقود من الزمن لجدل ونقاش واسعين وذلك لاختلاف الأرقام التي تدلل على حجم البطالة الصادرة عن مراكز الدراسات والمكتب المركزي للإحصاء، ولكن جميعها تدلل على وجود بطالة، ومؤشراتها في حالة تزايد وارتفاع، بالرغم من أن الحكومات تقلل من مخاطر هذه الظاهرة وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
لقد ارتفعت معدلات قوة العمل خلال العقدين الأخيرين وبشكل فاق معدل النمو السكاني للفترة ذاتها (من 4 مليون عام 1994 الى نحو 5 مليون عام 2004) وبمعدل سنوي قدره 3’2% ومن الواضح أن نسبة النساء في سوق العمل قد ارتفعت خلال الفترة المذكورة من 8’12% إلى 3’17% وبلغت نسبة البطالة خلال الفترة الواقعة بين عامي 2003 – 2010 نسبة 8% من مجموع قوة العمل بينما هيئة مكافحة البطالة أوردت أن نسبة البطالة تبلغ 15%.
جاء في دراسة للمنتدى الاقتصادي السوري بتاريخ 19/6/2014 ( شهدت معدلات البطالة ارتفاعاً غير مسبوق نتيجة الأزمة فارتفعت من 10% عام 2010 إلى 8’48% عام 2012 وبلغ عدد العاطلين عن العمل حوالي 5’2 مليون عامل واستمرت معدلات البطالة في الارتفاع لتصل إلى 60%عام 2013 وبالتالي يبلغ عدد العاطلين عن العمل حوالي 32’3 مليون عامل.
أما بالنسبة لمعدلات البطالة في القطاع الخاص الذي يشغل ما يقارب الـ 3 مليون فقد ارتفعت إلى أكثر من 75% نتيجة تراجع المشاريع الاستثمارية بنسبة 50% وهروب أعداد لا بأس بها من الصناعيين بمصانعهم إلى دول الجوار حيث قدر تقرير للأمم المتحدة أن ما خرج من رؤوس أموال يقدر بـ 12 مليار دولار و60% من رجال الأعمال السوريين، وأكد المصدر نفسه أن البطالة في القطاع الخاص تجاوزت 88% في نهاية عام 2013 كذلك ذكرت وزارة الصناعة: أن عدد العمال الذين خسروا عملهم أثر توقف معامل القطاع الخاص الصناعي فقط يبلغ( 800 ألف عامل) منهم 200 ألف عامل مسجلين في التأمينات الاجتماعية، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة وزيادة عدد الفنيين والعمال المهاجرين بما فيهم المهندسين حيث وصل عددهم حسب نقيب المهندسين نحو 20 ألف مهندس.
لماذا الأرقام
لقد بدأ في الآونة الأخيرة بروز أصوات تقول أنه ليس هناك بطالة في سورية، بل هناك نقص في العمالة بالرغم من الدراسات الكثيرة والإحصاءات التي تقدمها مراكز الأبحاث بما فيها الحكومية، التي تورد فيها حجم البطالة ومعدلاتها المرتفعة التي باتت خطرة من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والقصد من هذه المواقف على ما يبدو تبرئة السياسات الاقتصادية الليبرالية من مسؤوليتها تجاه تعاظم معدلات البطالة قبل الأزمة، وأن الأزمة هي المسؤولة عن هذا الواقع وليست تلك السياسات التي كان لها الدور الأساسي في عمليات الإفقار والتهميش من خلال ضرب الصناعة الوطنية، بما فيها القطاع العام الصناعي، عبر سياسة الانفتاح والمنافسة غير المتكافئة مع البضائع الواردة إلى أسواقنا، وضعف الاستثمار في المواقع الصناعية المولدة للعمالة واستثمار الميزات الخاصة في الاقتصاد السوري التي هي رافعة، وتساهم في رفع نسب النمو وتشغل الأعداد الوافدة والمتزايدة إلى سوق العمل، فكان البديل عن ذلك الاتجاه نحو الاستثمار في العقارات والمصارف والسياحة وجميعها مولدة للأرباح لصالح قوى رأس المال وطاردة للعمالة مما يرفع من معدلات البطالة.
العمالة المهاجرة ليست بالحساب
صحيح أن هناك نقصاً حاد في أعداد العمال الفنيين بسبب الهجرة إلى الخارج الناتجة ليس من الحرب وتبعاتها بل أيضاً لعدم وجود فرص عمل كافية أساساً لها في سورية، وهذه العمالة ليست في حسبان أصحاب نظرية عدم وجود بطالة، ولكن السؤال المفترض طرحه هو: ما هي الإجراءات التي سعت الحكومة من أجل عودتهم بما يكفل إيجاد فرص عمل يساهمون بها في إعادة تدوير عجلة الإنتاج التي هي شبه متوقفة؟
إن الحكومة تنظر إلى هذا الواقع من خلال المثل الشعبي الذي يقول ( يا جامع أنت مسكر وأنا منك مستريح ).
البطالة قضية مزمنة
إن قضية البطالة مزمنة، وهي قضية اقتصادية وسياسية بامتياز، ولا يمكن حلها على أساس ما هو مطروح من سياسات تشغيل صغيرة أو خلافه، كما هو مطروح حالياً، إن حلها يعتمد على وجود استثمارات كبيرة في المجال الصناعي والزراعي، حيث المفترض أنها من واجبات الحكومة، أية حكومة، إذا ما أرادت حل قضية البطالة بشكل تدريجي وصحيح، ولكن استمرار القول بحل قضية البطالة باستمرار السياسات الليبرالية هو قبض للريح، وستتفاقم أكثر، وسيكون انفجارها ليس ببعيد بسبب تراكمها على مدار عقود دون إيجاد حلول جذرية تخفف من أثارها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
إن الشمس لا يمكن أن تغطى بغربال وكذلك البطالة لا يمكن أن تغطى بغربال مهما قيل أنه ليس هناك بطالة، فالبطالة أمر واقع وموجودة تؤكدها المسابقات التي تدعوا لها المؤسسات والشركات الحكومية عند طلبها لموظفين أو عمال حيث يتوافد الآلاف من أجل التوظيف والعمل، أليست هذه بطالة أم ماذا؟