هل تصدق؟ يقولون لا توجد بطالة!
يعتقد البعض بأن ظاهرة البطالة غير موجودة حالياً في البلاد، وبأن مؤشر الطلب المرتفع على العمالة الإنتاجية الموسمية في الوقت الحالي هو مؤشر كافٍ كي يقول لا يوجد بطالة، فصح فيهم القول (على أعينهم غشاوة).
إن أي موقف، اقتصادي أو سياسي، إنما يعبر بنهاية الأمر عن موقف طبقي وعن تموضع صاحب الرأي، بشكل فعلي أو إيديلوجي ضمن الطبقات الاجتماعية، وانطلاقاً من هذا الثابت فلطالما رفضت قوى المال ظاهرة البطالة، وأنكرت أرقامها وشككت بعشرات الإحصائيات التي تتحدث عنها وتلوح بخطرها، فتارة يذهبون للقول بأن البطالة الموجودة بطالة وهمية أو غير حقيقية، وبأن مئات الآلاف من المحسوبين كمتعطلين عن العمل إنما هم بحقيقة الأمر يعملون باقتصاد الظل أو سوق العمالة الموازي، وكذلك حين تكون إحصائيات البطالة فاقعة اللون، لدرجة لا مجال لتكذيبها، فإنهم يبررون ذلك ويردونه للعوامل الذاتية، فيخرجون من جعبتهم تلك المصطلحات الجاهزة والعجيبة كمقولة (الشغل موجود، بس الشعب تنبل ما بدو يشتغل!).
أرقام حكومية مضللة تخدم سياساتها
لم تكن الإحصائيات التي تشير لنسبة البطالة الفعلية ما قبل الأزمة صحيحة بمجملها، بل لفها التضليل وركبتها الأيادي الخفية في الغرف المظلمة، وفي أحسن الأحوال، ومن باب حسن الظن بالشيء، يمكن القول بأنها لم تكن دقيقة أبداً، بل إن نسبة البطالة حينها أعلى بكثير مما ورد فيها، واستمرت الأرقام بالتغير مع بداية الأزمة واستمرارها, والجهات نفسها التي كانت تدّعي بأن نسبة البطالة قبل الأزمة لا تتعدى 10%، تتحدث اليوم بعد أكثر من خمس سنين من الأزمة عن إنجاز كبير عنوانه: لا يوجد بطالة في سورية، وبطلاه المطلقان السياسات الاقتصادية الحكومية، وسياسات القوى المالية في السوق.
غياب الإحصاء وقوة الواقع
يحتاج تبيان نسبة البطالة لمراكز أبحاث عمالية وأخرى إحصائية، باستطاعتها إنتاج أرقام ونسب تكون حازمة، وهذا مما يصعب الحصول عليه في الوقت الراهن. وبما أن الوضع خلال الأزمة دائم التغير والتبدل، فلا بد إذا ما أردنا المقاربة قدر المستطاع لمعرفة حجم البطالة الحالية؛ أن نحاول التقاط تلك الظواهر التي ينتجها الواقع، فنحلل معطياتها ونجتهد بها، ومن أولى تلك الظواهر قيمة الأجور الحالية.
قيمة الأجور مؤشر أساسي للبطالة
في القطاع العام والخاص المنظم لا يتأثر أجر العمال بتغير نسبة العرض والطلب على اليد العاملة، كونهما يخضعان لمعيار سلسلة الأجور وفق قوانين العمل المعمول بها، لذلك لا يمكن لقيمة الأجور في هذين القطاعين أن تكون مؤشراً يستفاد منه بموضوعة البطالة، ولكن إذا ما ذهبنا للقطاع الخاص غير المنظم، وهو القطاع الأوسع من بين القطاعات العمالية الأخرى كافة، لوجدنا بأن قيمة الأجور الحالية هناك لا تدل على ارتفاع نسبة الطلب على الأيدي العاملة، فأجر ساعة العمل فيه لا تتجاوز 170 ليرة، وهذا مؤشر موضوعي لارتفاع نسبة البطالة، فلو أن هناك طلب كبير على اليد العاملة لدرجة نفي ظاهرة البطالة لكان أجر ساعة العمل تجاوز 800 ليرة كحد أدنى، بناءً على التكلفة الضرورية للمعيشة للأسرة السورية، ولما كان العامل أصلاً قد رضي بأقل من هذا أبداً.
يلزمنا عمال والأجر على الله
إن أي ادعاء يصدر من هنا وهناك عن عدم وجود بطالة في الوقت الراهن يحاول صاحبه إيهامنا، من حيث يدري أو لا يدري، بأن الأزمة قد تكفلت بالقضاء على البطالة، فمئات الألوف من الأيدي العاملة قبعت في مخيمات اللجوء في دول الجوار، وهاجرت مثلها لما وراء البحار، ناهيك عمن أجبرتهم الظروف المعيشية لقطاعات الفوضى المسلحة، فتراجع الطلب على العمل وامتصت الأزمة (فائض العمالة) وكأن من نزح ولجأ وهاجر من العمال والمهنيين لم تعد الحكومة مسؤولة عنهم، ولم تعد تلك الملايين المتعطلة عن العمل تدخل في إحصائياتها وأرقامها، فيتبجح من يريد بأرقامه الجديدة ويفاخر بانعدام البطالة، ورغم بطلان هذا الزعم فلا بد من سؤال صاحبه عن عمالة الأطفال التي ملأت القطاعات الخدمية والإنتاجية، وعن فوضى (البسطات) التي أراد أصحابها الترزق من خلالها على أرصفة المدينة، وقد كانوا بالأمس عمالاً، وعن المهمشين الذين قبعوا في عشوائيات المدن، وتزداد أعدادهم يوماً بعد يوم، عليه أن يجيب بدل أن يطلق حكمه في أمر ما بمجرد أن قرأ على أبواب المقاهي والمطاعم والمولات (يلزمنا عمال) والأجر على الله!.