«اللوحة» لغوغول: خمسون عاماً من الرهان الشيطاني
لعل اللقطة الأشهر والأكثر رسوخاً في الذهن من بين اللقطات الكثيرة والدالّة التي يتكون منها فيلم «المغامرة» للإيطالي ميكائيل أنجلو أنطونيوني، هي تلك التي تصوّر بطل الفيلم المهندس، اذ يلتقي في باحة مكان أثري بشاب صغير السن منهمك في رسم لوحة بالحبر الصيني تصور ذلك المبنى، يتأمل المهندس ما يفعله الشاب وبدلاً من أن تبدو على عينيه ملامح التأثر الفني بعمل لا شك في ابداعيته، يلوح في العينين حقد وشر كبيران وتنتهي اللقطة بحركة من يد المهندس تبدو، للوهلة الأولى غير مقصودة، لكننا نحن المتفرجين نعرف يقيناً أنها مقصودة:
حركة توقع قنينة الحبر الأسود على اللوحة وتفسدها. كان واضحاً أن انطونيوني انما أراد بتلك اللقطة أن يصور احباط بطله المهندس أمام شخص يذكّره بأحلامه الفنية التي باعها على مذبح النجاح المادي، فباع موهبته مفضلاً ألا يذكّره أحد بأنه كان يمتلكها وخانها يوماً. فإذا بالرسام الشاب يقع في طريقه، فلا يكون من شأن المهندس إلا أن يعبّر بطريقته الشريرة تلك عن حقده على النجاح والناجحين.
في الحقيقة اننا اذا راقبنا ما يحدث في الحياة والمجتمع من حولنا، سيطالعنا مثل هذا المشهد مرات ومرات في كل لحظة وساعة ويوم. ولا سيما في أيامنا هذه حيث نعرف حالات لا تحصى عن موهوبين ابتلعتهم أسواق الاستهلاك، وحالمين تحول حلمهم كابوساً. باختصار عن مبدعين تخلوا عن ابداعهم ويدهشهم وجود من لم يتخلَّ عن أحلامه بعد. وفي الفن والأدب، ثمة كما نعرف أعمال كثيرة في كل ابداعات العالم تتحدث عن هذا الأمر وتبدو أشبه بمحاكمة لنوع انتهازي من المبدعين، كما تبدو في بعض الأحيان أشبه بمحاكمة للذات. واذا كان فيلم «المغامرة» لأنطونيوني يبدو في قدرته التعبيرية هذه، الأكثر قدرة على الوصول الى متفرجي السينما ومخاطبة وعيهم، فإن ثمة في الأدب العالمي - بين أعمال عدة مشابهة - نصاً للكاتب الروسي غوغول، يمكن اعتباره علامة أساسية في المجال والقول نفسه. وهذا النص هو القصة الطويلة «اللوحة» التي ضمها الكاتب، عند النشر، الى مجموعته التي اشتهرت لاحقاً بـ «حكايات سانت بطرسبرغ» - انطلاقاً من أن كل حكايات هذه المجموعة تحدث في المدينة الروسية العريقة وكتبت فيها -، علماً أن الكاتب نفسه عاد، حين نشر أعماله الكاملة، ليضم هذه القصة نفسها الى قسم اطلق عليه اسم «آرابيسك» - والمعني بها «أعمال متنوعة».
كثر بين النقاد والمؤرخين لا ينظرون الى «اللوحة» عادة على اعتبارها نصاً كبيراً من نصوص غوغول. ومع هذا فإن القسم الأكبر من دارسي أعماله، يضعونها في مكانة متقدمة انطلاقاً من معناها لا من مبناها، وعلى اعتبار أنها عمل قال فيه غوغول ما كان يريد أصلاً أن يقوله حول بعض وجوه زمنه الأدبي. يومها، لأن كثراً من زملائه ومجايليه، كان في امكانهم أن يروا في القصة مرآة لهم، تقصّد غوغول أن يلوّن العمل بطابع غرائبي... غير أن هذا التلوين لم ينطل على أحد. وبالتالي، أثارت القصة ضجة في وجه كاتبها، لكنها كانت ضجة عابرة، خصوصاً أن أحداً من الذين أغضبتهم هذه القصة، لم يكن في وسعه أن يقول شيئاً عن السبب الحقيقي الذي أغضبه: أي كون «اللوحة» تصف انتهازيته في عالم الإبداع. من هنا اكتفوا بأن يركزوا على «ضعف القصة» من ناحية شكلها الفني. وهو ما جاراهم فيه غوغول نفسه على أي حال.
تحكي لنا قصة «اللوحة» («البورتريه» بالأحرى، على أساس أن اللوحة المقصودة هنا هي واحدة تمثل شخصاً معيناً، على عكس مفهوم اللوحة التي تعني كل ما يرسم على مسطح معين)، التي حين نشرها غوغول لم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره، حكاية رسام شاب موهوب يشتري ذات يوم لوحة تمثل رجلاً عجوزاً ذا نظرة شديدة الغرابة والخصوصية. والحال أن هذه النظرة هي ما يلفت نظر الرسام الشاب ويدفعه الى شراء اللوحة أملاً في دراستها عن قرب وفي شكل متواصل كي يدرك سر تلك النظرة التي بدت له، منذ اللحظة الأولى، نظرة انسان حي. والحقيقة أن حدسه هذا لم يخب، اذ ما إن علق صاحبنا اللوحة على جدار غرفته، حتى تحرك العجوز المرسوم نازلاً من داخل الإطار مقترباً من الشاب المندهش. وهنا يبدأ العجوز حديثه على الفور ناعياً على الرسام الشاب كونه يضيع وقته في محاولة رسم لوحات يريدها أن تكون فنية تجديدية وخاصة. لماذا تفعل هذا أيها الشاب؟ لمَ لا تنزل الى السوق وتستخدم مواهبك وتقنياتك المميزة في رسم لوحات تمثل عليّة القوم. لو فعلت ستصبح ذا مهنة مربحة لأن كل واحد من الذين ترسمهم بريشتك الباهرة سيدفع لك مبالغ طائلة مقابل رسمك اياه. فلماذا تضيع وقتك وتقتل مواهبك وتعيش في الفقر؟ كان هذا هو فحوى الحديث الذي توجه به العجوز الى الشاب، الذي لم يطل به الأمر حتى بدا مقتنعاً تماماً بهذه الدعوة المنطقية الموضوعية. وهكذا، اذ انبهر الشاب بالفكرة، طفق يحققها من فوره ليصبح بعد فترة يسيرة من الزمن أشهر رسامي البورتريهات في المدينة، ثم واحداً من أغنى أهلها. وهكذا راح الزمن يمضي وصاحبنا يحقق نجاحاً بعد نجاح.
غير ان مضيّ السنوات واستتباب الشهرة وتراكم الثروة لم تمكّن الرسام الشاب من أن يواصل فرحه بما يفعل. اذ ها هو بعد حين يفيق على واقعه ويبدأ محاسبة نفسه ويأكله الندم. لكنه، هنا، بدلاً من أن يبدل سيرته، يصب كل حقده - كما سيفعل مهندس «المغامرة» - على الشبان من أصحاب المواهب الحقيقية والذين يرفضون التنازل عن مواهبهم. ويتخذ هذا الحقد شكلاً عملياً غريباً من نوعه: يشتري الرسام الشاب الثري، بأمواله الطائلة، كل لوحة وكل عمل فني يأنس منه قيمة ابداعية حقيقية... ثم بدلاً من أن يحتفظ به، يدمره حرقاً أو تمزيقاً. المهم ان هذا العمل يجب ألاّ تقوم له قائمة في نظره. فإما أن يصبح الفنانون جميعاً مثله، وإلا فلا حياة لأي فن.
طبعاً يمكننا أن نتصور هنا أن هذا كله سيكون من شأنه أن يقود صاحبنا الشاب الى الجنون، ومن ثم الى المرض، فإلى الموت الذي يتلو ذلك. واذ يمضي بعض الوقت، نجدنا ذات يوم لاحق في متحف فني علِّقت فيه تلك اللوحة التي كانت حكاية الرسام قد بدأت بها. لوحة الرجل العجوز ذي النظرة الغريبة والسمات الحية. وهنا تُروى لنا حكاية اللوحة: ان العجوز المرسوم هنا ليس سوى الشيطان المسمى «عدو المسيح». انه حيّ يتمثل في هذه اللوحة يفسد حياة الناس وأذواقهم، ويقودهم لحقده على البشرية وكراهيته للناس، الى حتفهم ودمارهم من دون وازع من ضمير - وكيف يمكن أن يكون للشيطان ضمير؟ -. والشخص المرسوم هنا يتجسد على أي حال تحت ملامح مرابٍ، يبدو في الوقت نفسه مسؤولاً عن افلاس كثر وموتهم، انتحاراً أحياناً. وتتابع الحكاية أن هذا المرابي كان - قبل وفاته - قد طلب ان تُرسم له صورة (هي هذه اللوحة) تكون لها قدراته الشريرة المدمرة ذاتها. وكان الشرط مقابل تحقيق أمنيته أن تدوم فعالية اللوحة خمسين عاماً. واذ نجدنا في اليوم الذي ينتهي فيه المفعول، نشاهد أمام أعيننا الشيطان يختفي من على سطح اللوحة تماماً، ليحل مكانه مشهد طبيعي شديد العادية والسطحية.
لقد كان واضحاً أن نيكولاي غوغول (1809 - 1852) في ذلك الوقت المبكر من شبابه ومن مساره الأدبي، انما أراد من خلال هذه اللوحة، أن يلقي نظرة على ما كان يعهده من حوله من أخلاقيات وسلوكيات بعض الفنانين الأشهر في زمنه. ومن هنا نراه يضحّي بالأبعاد الفنية - التي تفتقر اليها هذه القصة في الواقع - لحساب الرسالة التي كان يريد ايصالها. وفي اعتقادنا أنها وصلت في ذلك الحين. وربما يمكنها أن تصل في كل حين، حتى وإن كان غوغول تجاوزها كثيراً في أعمال له مثل «المعطف» ولا سيما «الأرواح الميتة»... تلك الأعمال التي كرسّته فناناً كبيراً، ومبدعاً مؤسساً للأدب الروسي، الى درجة أن دوستويفسكي سيقول ذات يوم: «لقد خرجنا كلنا من معطف غوغول».
المصدر: الحياة