بين قوسين: اقتصاد سوق المتعة الاجتماعي

بعد ذلك بسنتين أو ثلاث، ظهر بيت دعارة جديد، تبعه آخر، وآخر، ثم كرّت السبحة حتى أصبح الحي الذي لا يتجاوز عدد بيوته الخمسين، يضم اليوم سبعة أو ثمانية بيوت دعارة مؤكدة، ناهيك عن بيتين أو ثلاثة هناك شبهة باحتمال ممارسة قاطنيها لهذه «المصلحة الدارجة».. وتوقفت العرائض الرافضة بالتدريج بسبب التغيرات الديمغرافية المستمرة وغلبة فكرة «ما دخلنا»، وانهارت المقاطعة الشعبية مع ازدياد عدد البقالين والحلاقين والفوالين والكهربجية... واشتداد حدة المنافسة بينهم، وانخفضت وتيرة الممانعة العلنية المنظمة شيئاً فشيئاً بفعل الخوف واللامبالاة، حتى اكتفى الممانعون أخيراً بالتذمر الهامس والثرثرة العابرة والمقاطعة الشخصية.

ما حدث في هذا الحي لم يكن استثنائياً، بل هو مجرد مثال لما راح يصيب أحياء معظم المدن السورية الكبرى، وخاصة العاصمة، التي كان فيها «مرجة» واحدة حتى وقت قريب، صغيرة ومحدودة ومضبوطة، فأصبحت الآن تعج ببؤر الدعارة المختلفة، من فنادق، وملاه، وبيوت فارهة، وبيوت متواضعة في الأحياء الشعبية والعشوائيات، ومكاتب عقارية، وسياحية... إلخ.. حتى أن هناك أحياء بكاملها أصبح سكن الناس (العاديين) فيها أمراً مليئاً بالإزعاجات والضغوطات المختلفة لاكتظاظها ببيوت الدعارة وطالبي المتعة من كل الجنسيات..

ولعل تفسير هذه الظاهرة ليس من الأمور المعقدة، فقد ارتبط انتشار الدعارة بهذا الشكل الواسع بأمرين، الأول هو التردي المستمر للأحوال العامة لمعظم الناس، الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، والذي وصل في السنوات القليلة الماضية إلى مرحلة خطيرة وغير مسبوقة، وأنتج فقراً شديداً وبطالة متفاقمة وانحلالاً قيمياً واسعاً، والثاني يرتبط ببعض التوجهات غير «المسؤولة» التي لا ترى في فهمها للسياحة أبعد من تحويل البلاد برمتها إلى دار بغاء إرضاء للمستثمرين المحليين والوافدين والسياح النفطيين، وهذه التوجهات راحت تسير جنباً إلى جنب مع نقيضها الشكلي الذي يطالب بالحجب وعزل الجنسين أحدهما عن الآخر!. وقد كرّست بعض المحطات الإعلامية هذا الانحلال، وحفّزت باتجاهه عبر سحبها العديد من الداعرات من سوق المتعة «السرية» إلى الشاشات، وتحويلهن  إلى نجمات يغنين أو يرقصن أو يمثلن أو يقدمن البرامج.. أو يفعلن كل ذلك في آن واحد!

اليوم، ومع تفشّي أفكار وإجراءات وقوانين السوق واللبرلة، ينتشر عدد كبير من بائعات الهوى في الطرقات والشوارع والساحات العامة بجرأة وعلانية، ويعرضن خدماتهن على أي زبون يخمّنّ أنه طالب هوى دون تقدير لإنسانيته، وفي المقابل قد يتحرش أي سائح أو محدث نعمة أو ابن متنفذ بأية شابة أو امرأة تسير في الطريق، ويعاملها على أنها داعرة لمجرد أنها سافرة أو متبرجة، ويعرض عليها المال مقابل المتعة دون مراعاة لكرامتها.. وفي الحالتين تبدو البلاد وكأنها لم يعد فيها شعب حي ومتحضر وصاحب حضارة عريقة وأحلام بمستقبل أفضل، بل مجرد أفراد تائهين في زحمة، بلا هوية، وبلا حصانة، وبلا مشاعر إنسانية قد تُخدَش بسبب تخمين خاطئ..