الرأسمالية والديمقراطية في القرن الحادي والعشرين: صراع القوة وارتفاع عدم المساواة

الرأسمالية والديمقراطية في القرن الحادي والعشرين: صراع القوة وارتفاع عدم المساواة

في محاضرة روبرت هيلبرونر التي ألقيت في مدرسة نيويورك للبحوث الاجتماعية في نيسان 2025، قدمت الاقتصادية جياتي غوش رؤية عميقة ومقلقة حول تطور الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين وعلاقتها المتوترة بشكل متزايد مع الديمقراطية. تستند غوش في تحليلها إلى إطار نظري يجمع بين التقليد الماركسي ومدرسة التنظيم الفرنسية، مع إضافة رؤى جديدة حول تحول الرأسمالية إلى نظام يهيمن عليه السعي إلى تحقيق الريوع الاقتصادية بدلاً من الأرباح الإنتاجية التقليدية.

العلاقة الجدلية بين الرأسمالية والدولة

تجادل غوش بأن الرأسمالية لم تكن أبداً نظاماً يعتمد على «السوق الحرة» فقط، بل كانت دائماً تعتمد على الدولة بشكل أساسي. فمنذ نشأتها، اعتمدت الرأسمالية على الأطر القانونية والمؤسسية التي تخلقها الدولة وتدعمها، خاصة فيما يتعلق بحماية حقوق الملكية الخاصة. هذا التناقض بين الخطاب السائد حول السوق الحرة والواقع القائم على تدخل الدولة يشكل أحد الأسس التي تبني عليها غوش تحليلها.

تطورت هذه العلاقة عبر مراحل تاريخية مختلفة من مرحلة تمكين رأس المال الخاص من قبل الدولة، إلى مرحلة دعم الأرباح في ظل مرحلة الاحتكارات، وأخيراً إلى مرحلة استيلاء رأس المال على الدولة في عصر التمويل. في كل هذه المراحل، تبقى الدولة لاعباً أساسياً، لكن طبيعة وشدة تدخلها تتغير وفقاً لاحتياجات رأس المال المسيطر.

تركيز الثروة وتآكل الديمقراطية

أحد أهم الاستنتاجات التي تصل إليها غوش هو أن الرأسمالية تعمل بشكل متأصل على تقويض الديمقراطية، لا بمفهومها الانتخابي الضيق فقط، بل كممارسة تسمح للمواطنين بالتعبير الحر والمشاركة في القرارات التي تؤثر على حياتهم. وتظهر بيانات صندوق النقد الدولي التي تستشهد بها غوش انخفاضاً مطّرداً في حصة الدخل الوطني التي تذهب إلى العمال في معظم الاقتصادات الرأسمالية على مدى نصف القرن الماضي.

لكن الأكثر إثارة للقلق، كما توضح غوش، هو أن عدم المساواة لا يقتصر على الفجوة بين رأس المال والعمل، بل يمتد ليشمل تفاوتاً متزايداً داخل طبقة رأس المال نفسها. حيث تستحوذ الشركات متعددة الجنسيات العملاقة- وخاصة تلك المقيمة في الولايات المتحدة- على الحصة الأكبر من الأرباح العالمية. هذا التركيز الهائل للثروة يؤدي بدوره إلى تركيز هائل في السلطة، مما يمكّن كبار أصحاب رأس المال من التأثير على قرارات الدولة وتشكيل القوانين واللوائح لصالحهم.

طفرة «الرأسمالية الريعية» وتداعياتها

تقدم غوش مفهوم «الرأسمالية الريعية» كتطور نوعي في طبيعة النظام الرأسمالي. هنا، تستند فكرتها إلى مفهوم ماركس حول «ريع الأرض المطلق»، لكنها توسعه ليشمل أشكالاً أخرى من الملكية والسيطرة. فبينما ركز ريكاردو على الندرة كمصدر للريع، أكد ماركس على أن الاحتكار الناجم عن حقوق الملكية الخاصة يسمح باستخلاص فائض إضافي.

في الرأسمالية المعاصرة، كما ترى غوش، لم يعد الريع يقتصر على ملكية الأرض أو الموارد الطبيعية، بل امتد ليشمل السيطرة على الأصول غير المادية مثل الملكية الفكرية، الفضاء الإلكتروني، وحتى البيانات. والأهم من ذلك، أن الريع لا ينشأ من قوة السوق الاحتكارية فقط، بل من القدرة على التأثير في مؤسسات الدولة وسياساتها. هذا الشكل من الرأسمالية الريعية يقود إلى تفاوت متزايد، وركود في الاستثمار والابتكار، ونمو اقتصادي بطيء، وتآكل في الحقوق الديمقراطية، واستقطاب اجتماعي حاد.

مقارنات مع مفاهيم نقدية أخرى

يذكر أن تحليل غوش يتقاطع مع تحليلات أخرى نقدية للرأسمالية المعاصرة. على سبيل المثال، يانيز فاروفاكيس يتحدث عن «التقنية-الإقطاعية» حيث يصبح أصحاب شركات التكنولوجيا الكبرى أقرب إلى السادة الإقطاعيين الذين لا يسيطرون على الأسواق والبيانات فقط، بل وعلى عقولنا أيضاً. لكن غوش توسّع النقاش إلى ما وراء المجال الرقمي، مشيرة إلى أن الرأسمالية الريعية تمتد إلى مجموعة واسعة من الأنشطة الاقتصادية.

هذا التحليل يجد صدىً أيضاً في عمل جوزيف ستيغليتز الذي يشير إلى أن عدم المساواة أصبحت مصدراً لفقدان الثقة في الديمقراطية الليبرالية، حيث إن القوة الاقتصادية المفرطة في أيدي قلة تمكنها من تحويل السياسات لصالحها على حساب الصالح العام.

تداعيات على النظام العالمي والديمقراطية

النتيجة الحتمية لهذا التحول في طبيعة الرأسمالية هي أزمة الديمقراطية نفسها. عندما تتحكم أقلية صغيرة في معظم الثروة والموارد، وتتمكن من خلال هذه السيطرة من تشكيل عمل الدولة لصالحها، تفقد الديمقراطية مضمونها الحقيقي. وتصبح القدرة على تنظيم العمليات الرأسمالية لخدمة المصلحة الاجتماعية مهمة أكثر صعوبة من أي وقت مضى.

هذه الديناميكية ليست محدودة في نطاق الدولة القومية، بل تمتد إلى المستوى العالمي. حيث تؤدي هيمنة الشركات متعددة الجنسيات والدول الغنية التي تستضيفها إلى تفاقم عدم المساواة العالمية، وإفقار معظم سكان العالم، وتقويض إمكانية وجود ديمقراطية حقيقية على المستوى العالمي.

مستقبل الديمقراطية في مواجهة الرأسمالية الريعية

في تحليلها لتأثير الرأسمالية الريعية على المجتمع، تخلص جياتي غوش إلى أن الآليات الموصوفة تفضي حتماً إلى تفاقم عدم المساواة على المستويين الجغرافي والاجتماعي، حيث تستفيد المناطق الأكثر ثراءً ونفوذاً سياسياً على حساب تلك الأكثر فقراً، كما يستفيد رأس المال على حساب العمال، بل وتتفوق الشركات العملاقة داخل الطبقة الرأسمالية نفسها على المنافسين الأصغر حجماً. تؤدي هذه الديناميكية إلى حلقة مفرغة حيث تولّد القوة الاقتصادية نفوذاً سياسياً، يعزز بدوره المكاسب الاقتصادية، مما يضع المواطنين تحت رحمة التحالف غير المقدس بين الثروة والسلطة.

لا يقوض هذا التحول العدالة الاقتصادية والحقوق الاجتماعية الأساسية فحسب، بل يمتد تأثيره السلبي ليهدد أسس الديمقراطية السياسية ذاتها. فغياب الديمقراطية الاقتصادية الجوهرية يضعف الثقة في المؤسسات السياسية، ويعزز الاستقطاب المجتمعي، ويمهد الطريق لصعود نمط من القادة الشعبويين الذين يعلنون معاداة النظام لكنهم في الواقع يدعمون استمرار هيمنة الرأسمالية الريعية وتعزيز قوة الكبار فيها.

وتعارض غوش الرأي السائد الذي يرى في الرأسمالية والديمقراطية توءمين متلازمين، مشيرة إلى أن العديد من كبار الرأسماليين، خاصة في العصر الرقمي، يعلنون صراحة أن حرية رأس المال لم تعد متوافقة مع الديمقراطية، ويسعون إلى خلق أطر قانونية جديدة تزيد من نفوذهم وتقلص حقوق العمال.

هذا التحليل يتطلب إعادة نظر جذرية في كيفية فهمنا للرأسمالية والديمقراطية، ويدعو إلى بحث علمي وسياسي جاد حول أشكال جديدة للتنظيم الاقتصادي والسياسي تكون أكثر ديمقراطية ومساواة. فكما لاحظ بول سويزي، أحد مؤسسي مجلة Monthly Review، فإن جوهر الحرية هو قدرة الناس على التحكم في مصيرهم الجماعي. وفي عالم تهيمن عليه الرأسمالية الريعية، أصبحت هذه القدرة مهددة بشكل لم يسبق له مثيل.

بالاعتماد على محاضرة جياتي غوش التي ألقتها في 29 نيسان 2025 في مدرسة نيويورك للبحوث الاجتماعية، كما نشرت في مجلة Monthly Review في 1 أيلول 2025.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1242