تدفُّقٌ هائل ينتظر تعميمه

تدفُّقٌ هائل ينتظر تعميمه

قبل كل ظهور لأي تيار فكري أو علمي أو اجتماعي-سياسي جديد، تتشكل وتتراكم ظواهر تبدو للوهلة الأولى متفرقة ولكنها إعلان مسبق عن هذا التيار، وبأن الضرورة الموضوعية صارت تتطلب ظهوره، أو بالأحرى «الإعلان» عن وجوده والإفصاح عنه. هكذا هي المعطيات المتراكمة الهائلة عن ضرورة نظام اجتماعي جديد وحضارة جديدة، يبدوان للوهلة الأولى عصيَّين على العقل السائد وقوة عادته المتشكلة على مدى عقود بل قرون.

مصادر المعطيات

تتنوع مصادر المعطيات التي تؤكد بأن الشروط المادية للحاجة إلى حضارة جديدة تتزايد في مختلف الميادين التي تتجاوز السياسي المباشر بمعنى الحروب المفتوحة والانقسام السياسي والأزمة الاقتصادية وتوزيع الثروة. هذه المعطيات التي كُتب عنها الكثير في «قاسيون»، ابتداءً من الأزمة التي تهدد العقل، إلى علاقة الفرد بالمجتمع، إلى تضخم الجانب الفلسفي في حقل الوعي اليومي، إلى التكنولوجيا الحديثة، إلى الأزمة البيئية، وغيرها. وأي تعامل مع هذه المعطيات وفقاً لإحداثيات العالم الراهن غير ممكن دون تدمير أوسع لمصادر الثروة والانتقال إلى «بربرية مُدارة» من قبل قلة قليلة. فالتكنولوجيا الحديثة تفرض قواعد حضارة جديدة تختلف فيها علاقة الفرد-المجتمع عن تلك المنقسمة اليوم. التكنولوجيا الحديثة تهدد مجمل القيم والمعايير السائدة طوال عقود بل قرون من الوجود البشري، ومنها مثلاً «تعريف الإنسان». ودون ذلك يعني، حسب المعطيات العلمية المتراكمة التي لا تحاول حتى أن تتحدى السائد، استمرارَ تهديد الفعالية البشرية والاستقلالية (أو بالأحرى ما هو متبقٍ منها).

وكذلك هو التضخم في الجانب الفلسفي، الذي يتزايد حضوره ضمن الوعي اليومي. فالمعطيات من مختلف المصادر العلمية والطبية تقول بأن شكل التفكير الفلسفي يصير ظاهرة أصيلة في الوعي اليومي، والحاجة إليه تتزايد، خصوصاً في ظل عمق واتساع الأزمات الوجودية التي يواجهها إنسان اليوم. من الأمثلة على ازدياد الحاجة للفلسفة هو تطور ما يسمى بالاستشارات الفلسفية التي تتجاوز الاستشارات النفسية في طبيعتها، وتتعداها إلى المكونات الفلسفية لتفكير الفرد وقدرتها أو عدم قدرتها على التعامل مع الواقع في تعقيده وتناقضاته، خصوصاً مع الأسئلة الوجودية التي تفرضها التكنولوجيا الحديثة. وعلى الرغم من أن هذا الانتعاش في الفكر الفلسفي لحد الآن يَدفع إلى الواجهة تيارات فلسفية مثاليةً في جوهرها وغير ثورية في وظيفتها، إلا أن هذا التصاعد في الحاجة للفلسفة هو مؤشر على أن تناقضات الحضارة الاستهلاكية القائمة صارت تفرض إجابات هي على مستوى عام وشامل وتطال جوهر الظواهر على مدى التاريخ البشري، ومنها مثلاً قضايا معنى الوجود وعلاقة الدَّور بصناعة الوجود وتقريره، إلخ.

وهذا التراكم للمعطيات، وإن كان يحصل بعيداً عن الحدث السياسي المباشر، فهو جوهر عملية الانتقال العالمية الحاصلة.

من يقوم بالتعميم؟

الإشارة المتزايدة إلى «الحَوكَمة العالمية» (من الاقتصاد إلى التكنولوجيا) وما تحمله من ملامح «أممية» في وجه الفوضى المنفلتة، وباقي الطروحات السياسية النقيضة للإمبريالية، لم تطرح لحد الآن التيار السياسي-الاجتماعي القادر على تعميم المعطيات المتشكلة والتي تقول بالحاجة لحالة حضارية جديدة. ومن خلال تحليل الخطاب الذي يرافق «الحالة الصاعدة» في وجه الإمبريالية يمكن القول بأنه، وبشكل عام، خطاب دفاعيٌّ لحد الآن. فهو، على الرغم من أدواته الهجومية، كالتأكيد على «الحق» و«السيادة» و«تقرير المصير» و«رفض الوصفات المعلَّبة» في المجال السياسي، وعلى رفض الهيمنة الاقتصادية والعسكرية، إلا أنه لحد الآن لا يحمل إجابات في عمق الأزمة الحضارية. والإجابات المطروحة اليوم لا تزال محصورة في «التبشير بالقيم الجيدة والإنسانية». لا نقول بأن هذا غير مطلوب، ولكنه لا يحمل في جوهره طرح حضارة بديلة تعيد تعريف المجتمع والاقتصاد المتجاوز للعلاقات الرأسمالية، بل ضمن الرأسمالية المضبوطة وكبح مفاعيل الإمبريالية. ولكن كل المعطيات تقول بأن هذه رفاهية تملكها فقط تلك الدول التي تملك لحد الآن مستوى من الاستقرار، على عكس التفتت الحاصل في الحلقات الأضعف والتي تحدد إلى حدٍّ ما سير الحركة العالمية وتكبحها. فالدول التي تشهد تفككاً سياسياً واجتماعياً تحتاج إلى تحولات تتجاوز الرأسمالية من أجل البقاء. ولكن هذا الواقع لا يمكن فهمه بأنه ثابت بل يتطور باتجاه نضج أكبر في تعريف المشروع النقيض على وقع اشتداد الأزمة، من «دول الطوق» الصيني والروسي إلى أوروبا إلى الشرق الأوسط إلى أمريكا اللاتينية. فالحرب المفتوحة والهجينة، وخصوصاً التوظيف الكبير للجماهير كسلاح دمار شامل من خلال الرهان على حالة الحرمان والحاجة الروحية والمادية والوعي المختطَف، تحتاج إلى انخراط أوسع القوى الممكنة لكبحها، ولا يمكن ذلك دون معادلةٍ لإنهاء حالةِ تَعَطُّل العقل، وتأمين إشباع الحاجات المادية والروحية من خلال تجاوز الانقسامات الجوهرية في المجتمع الطبقي، من خلال توليف الإنسان والمجتمع ضد الانقسام المستمر طوال قرون.

خلاصة عامة

الخطاب السياسي متأخر عن كم المعطيات المتراكمة التي تقول بحالة حضارية تتجاوز الانقسام الطبقي، ولكن الفضاء الفكري والثقافي والوعي اليومي يقول بأن هذا المستوى من التفكير «الحضاري» يتزايد ويشق طريقه، فما يُقال اليوم لم يكن ممكناً حتى التفكير به من قبل الغالبية منذ سنوات قليلة ماضية. وهكذا هي الانتقالات الكبرى في التاريخ، تحصل بتدرجات وتعرجات غير خطية، فهكذا جرى تعميم معطيات العصر من قبل ماركس وإنجلس على شكل نظرية طبقية للتحرر التاريخي، التي كانت قد بدأت بالظهور بوقت ليس بقصير، وهكذا عمم لينين معطيات عصره التي بدأت بالتشكل مبكراً قبل أن يخرج بطروحاته عن الإمبريالية. هذا التراكم والتعميم يحتاجان وقتاً، والأهم أن وقتهما لا يقاس بكم صور الدماء والأشلاء على إعلام الاستنفار والاستفزاز اليومي واللحظي، على الرغم من فعالية صور هذه المعاناة في إعادة رسم الوعي السياسي العالمي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1243