إلى روح زياد

إلى روح زياد

من أهم مزايا تجربة زياد الرحباني أنها أعادت الاعتبار إلى الفن بوصفه أحد أدوات إغناء العالم الروحي للإنسان، ورسالة سامية في الوقت ذاته. كما أعادت التوازن إلى العلاقة بين الشكل والمحتوى في العمل الفني؛ فهو لا ينبغي أن يكون تقريراً سياسياً رتيباً ومملاً، كما لا يصح أن يكون خواءً أو طلاسم وأحاجي عصيّة على الفهم (بذريعة أن «المعنى في قلب الشاعر»). فالمبدع الحقيقي من طراز زياد هو ذاك الذي يمتلك أدواته الفنية ولا يساوم عليها، وفي الوقت ذاته يطرح موقفاً واضحاً من القهر الإنساني بكل تجلياته ومستوياته.

بهذا المعنى، يقطع زياد العلاقة مع الفن بوصفه مجرد سلعة في السوق، أو محاكاة للغرائز، أو تهويمات ذاتٍ مريضة لدى بعض أدعياء الفن. كما يرفض أن يكون الفن مجرد مادة دعائية أو شعاراً سياسياً فجّاً ينكر وظيفته الجمالية.
إن القدرة على الجمع بين الفن كوظيفة اجتماعية، وكجزء من سؤال الإنسان في بحثه الدائم عن الحقيقة، من جهة، وبين الإطار الفني القادر على محاكاة الروح والمشاعر والأحاسيس، من جهة أخرى، هي سمة المبدع الحقيقي.

فن النفاق

في عالمنا المنافق الحديث، عالم التفاهة، يزعم فكر ما بعد الحداثة بضرورة تهدئة أعصابنا عبر محو مفردات مثل «الحرب» و«الظلم» و«الجوع» من القاموس الفني والإبداعي. فهذه المفردات تُزعج علية القوم، وتخدش مشاعرهم الرقيقة ونفوسهم الحساسة. ويُقال إن الفن أسمى من أن يتطرق إلى مثل هذه القضايا! إذ يُروّج له كمتعة عابرة، أو لذة، أو «أكشن» وفانتازيا، توفّرها قدرات الثورة الرقمية!

تُصرّ مدرسة ما بعد الحداثة على إعادة إنتاج مقولة «الفن للفن» وفق منطق نظام التفاهة، فترّوج للّا معنى، واللا انتماء، واللا موقف، وتعزل الفن عن الواقع، بذريعة تجنّب تحوّله إلى مادة دعائية.

صحيح أنه لا ينبغي اختزال الفن في دعاية سياسية، لكن الفن الحقيقي لا يغلق أبوابه في وجه العالم الخارجي، ولا يعيش في برج عاجي. فالفنان ليس روبوتاً ولا مادة صمّاء، بل إنسان حيّ قبل كل شيء، ومن الطبيعي أن يشارك البشر أفراحهم وأحزانهم.

حين اعتُقل بيكاسو في باريس إبّان الاحتلال النازي، واطّلع المحقق على لوحته «غيرنيكا»، سأله: «هل فعلتَ هذا؟» فأجابه: «كلا، أنتم من فعلتموه».

في لوحة «غيرنيكا»، لم يكن بابلو بيكاسو يطرح رسالة دعائية مباشرة، بل كان يعكس الواقع كما تراه روحه الفنية. عكس الواقع لا يتناقض مع البعد الجمالي في العمل الإبداعي، بل هو شرطه الضروري.

نقد النقد

عوداً إلى بدء: زياد، كنموذج وظاهرة وخلاصة تجربة سياسية وفنية، وليس كفرد فقط، فإنه أسمى من أن ينال منه كتّاب «القطعة بعشرة»، أو «الثوّار» القابعون في دفء المغتربات، أو النسخ المحلية المبتذلة من فكر ما بعد الحداثة، أو صحافة البترودولار وألغاز الدولار.

الذين يحكمون على تجربة زياد السياسية من خلال موقفه الرافض للبدائل المطروحة، أكثر مما هو انحياز لطاغية، يتجاهلون حقيقة أن زياد تضامن مع أكثر معارضي النظام الساقط جذريةً ووضوحاً وتضحية، حين كان «المعارضون» الطارئون ما يزالون من أتباع ذلك النظام، أو في طور الفطام السياسي.

عدا عن ذلك، فإن زياد هو ابن مرحلة تاريخية بكل مفارقاتها وتناقضاتها وإشكالياتها. ووجود موقف خاطئ في مسيرته الطويلة لا يبرّر إطلاق أحكام ميكانيكية على تجربته والدعوة إلى دفنها. فهو أيقونة، شاء البعض أم أبى.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1236