بعدنا طيبين... قول الله
إيمان الأحمد إيمان الأحمد

بعدنا طيبين... قول الله

من سخرية الأقدار أن يرحل زياد الرحباني عن هذا العالم بالتزامن مع خروج المناضل جورج عبد الله من سجون «الديمقراطية» كما وصفها البعض، والتي قضى فيه أكثر من أربعين عاماً، وخرج معتمراً الكوفية والعلم الفلسطيني في رمزية واضحة ومقصودة.

تمكن زياد من استفزاز الوعي والوجدان، وأصبحت عناوين ومضامين أعماله جزءاً من الوعي الجمعي لأجيال من الناس إضافة إلى الكتاب والفنانين والموسيقيين، يكفي أن تسرد عناوين بعض أعماله، من «المحطّة» كانت البداية، تلتها مسرحيّات: «سهرية» (1973)، «نزل السرور» (1974)، «بالنسبة لبكرا شو؟» (1978)، «فيلم أمريكي طويل» (1980)، «شي فاشل» (1983)، «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» (1993)، و«لولا فسحة الأمل» (1994). روت هذه المسرحيّات حكايات عن وجع الحرب وآثارها، وعن الطبقات المسحوقة وبؤس النظام السياسي الحاكم.

سياسياً، انتمى بوضوح إلى اليسار، وانحاز إلى الفقراء والمهمّشين. ودعم المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي لم يخفت صوته ولم ينطفئ، رغم الانكسارات المتلاحقة، ظل زياد مخلصاً لنفسه ولم يتصالح، في زمن الانهيارات المتعدّدة، مع الرداءة أياً كان نوعها، ومجالها، في السياسة أو الفن...إلخ.

كتب الموسيقى التصويريّة لعدد من الأفلام اللبنانية، أشهرها «طيّارة من ورق» (2003) لرندة الشهّال، الذي شارك فيه بدور «زياد». وللراديو، ترك بصمات خالدة في زمن الحرب الأهلية، عبر إذاعة «صوت لبنان» في برامج مثل: «بعدنا طيبين... قول الله» (1976)، «العقل زينة»، و«نص الألف خمسمية» وغيرها من السلاسل الساخرة التي استهدفت النخبة والساسة على حدّ سواء. وفي الصحافة، أيضاً سجّل زياد حضوراً لافتاً ككاتبٍ جريء، يكتب بلغة حادة وخفيفة الظلّ في آنٍ معاً، ويضع إصبعه دائماً على الجرح.

تميّزت مسرحيات زياد بروح خاصة مثلت مدرسة في النقد السياسي والاجتماعي، وتبنت لغة قريبة من الناس، إذ نقل عبرها تفاصيل الحياة اليومية بعبارات بسيطة ومضامين عميقة، أبدع أسلوباً خاصاً يمزج بين سخرية لاذعة وحادة لدرجة الجرح وصدق واضح لا مهادنة فيه. وكان أفضل من شرّح الواقع وعاينه واستخدم الفن لمقارعة كل صنوف الظلم الاجتماعي والقهر والاحتلال، وحاول جعل المسرح منبراً لقول الحقيقة والتعبير عنها بصورة ساخرة تظهر لجمهوره وتستفز وعيه ووجدانه على حد سواء.

اختار زياد أن يكون فناناً حرّاً، وفياً لقناعاته، لم يتقيد بالمجاملات ولم يتمكن أحد، لا سوق ولا سلطة من مصادرة رأيه وقناعاته أو التأثير فيها، لأنه اعتمد على حسّ عالٍ بالمسؤولية تجاه الناس والمجتمع الذي ينتمي إليه إضافة إلى المجتمعات المهمشة والمسلوبة حقها.

في مفارقة صارخة للقدر، ودّع الناس عبقرية مثل زياد الرحباني، بينما كانت قضبان السجن رغماً عنها تطلق رفيقاً آخر، قضى جل حياته في السجون ولم يستسلم، خرج رافعاً رأسه، ومصراً على ما قاله زياد مرة: «نمشي ونكفي الطريق».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1236