جدلية علم البيئة والحضارة البيئية... من منظور ماركسي
تشين يي وين، بتصرف عن موقع: Monthly review تشين يي وين، بتصرف عن موقع: Monthly review

جدلية علم البيئة والحضارة البيئية... من منظور ماركسي

١. الأسس الجدلية لفهم الأزمة البيئية

تشكل الجدلية المادية لماركس وإنجلز إطاراً تحليليّاً حيويّاً لفهم التفاعل المعقَّد بين النظام الرأسمالي والأزمات البيئية. في عصر الأنثروبوسين، حيث أصبحت الأنشطة البشرية القوة المهيمنة على النظام الأرضي، تُبرز الرأسمالية تناقضاً جوهريّاً، فهي من جهةٍ تعتمد على استغلال الطبيعة لكونها مصدراً غير محدود للموارد، ومن جهةٍ أخرى تُنتج أزماتٍ بيئيةً تهدد وجودها نفسه. يُشير مصطلح «الصدع الأنثروبوسيني» إلى الانزياح الخطِر عن التوازن البيئي، مثل تغير المناخ وانقراض الأنواع، الذي يتزامن مع تفاقم اللا مساواة الاجتماعية.

لكن الرأسمالية، بدلاً من مواجهة هذه الأزمة، تحوّلها إلى فرصة لـ«التبرير الأخضر» (Greenwashing)، عبر تسليع الحلول البيئية (مثل أسواق الكربون) وخصخصة الموارد الطبيعية (كالمياه والغابات). هذا النهج لا يعالج الجذور البنيوية للأزمة، بل يزيدها تعقيداً. هنا تكمن أهمية إحياء المنهج الجدلي الماركسي، الذي يربط بين استغلال الطبقة العاملة واستغلال الطبيعة، مقدّماً رؤيةً لـ«حضارة إيكولوجية» تعيد بناء العلاقة بين الإنسان والبيئة.

٢- نقد الاتهامات الموجهة لجدلية الطبيعة عند إنجلز: دفاعاً عن التراث الماركسي

تعرض فريدريك إنجلز لانتقاداتٍ حادّة من مفكرين مثل جورج لوكاتش، الذي اتهم «جدلية الطبيعة» بالانفصال عن الممارسة الإنسانية وتحويل الجدلية إلى قوانين ميتافيزيقية مجردة. لكن هذه الانتقادات تتجاهل السياق التاريخي لفكر إنجلز، الذي رأى في العلم الطبيعي تعبيراً عن التفاعل الجدلي بين الإنسان والطبيعة. ففي كتابه «ديالكتيك الطبيعة»، أكد إنجلز أن قوانين الجدلية (مثل وحدة الأضداد وتحول الكم إلى كيف) لا تنطبق فقط على المجتمع، بل على العمليات الطبيعية أيضاً، كتطور النجوم وظهور الحياة.

لكن هذا لا يعني – كما يُفترض خطأً – أن إنجلز تجاهل الدور البشري. بل على العكس، شدد على أن الممارسة العملية (مثل الزراعة والصناعة) هي التي تسمح للإنسان بفهم قوانين الطبيعة وتسخيرها، شرط أن تخضع هذه الممارسة لـ«قوانين الطبيعة ذاتها»، وإلّا تحولت إلى تدميرٍ ذاتي. هذا الموقف يُظهر أن إنجلز لم يكن «ميكانيكيّاً»، بل قدم رؤيةً متوازنةً تدمج بين التحرر البشري واحترام الحدود البيئية.

٣- الطبيعة والمجتمع في فكر ماركس: من «الاستقلاب» إلى «الصدع الاستقلابي»

اعتبر ماركس أن العمل هو الوسيط الأساسي بين المجتمع والطبيعة، حيث يحوّل الإنسان المواد الخام إلى سلعٍ عبر عمليةٍ أطلق عليها اسم «الاستقلاب الاجتماعي» (Social Metabolism). لكن الرأسمالية، بنهمها للربح السريع، أحدثت «صدعاً استقلابياً «(Metabolic Rift) في هذه العلاقة. على سبيل المثال، استنزاف التربة الزراعية في أوروبا في القرن التاسع عشر بسبب الزراعة المكثفة دفع إلى استيراد الأسمدة من أمريكا الجنوبية، مما دمّر النظم البيئية هناك.

هذا الصدع ليس تقنيّاً فحسب، بل هو نتاج العلاقات الاجتماعية للإنتاج، حيث تُعامَل الطبيعة والعمالة كسلعٍ قابلةٍ للاستبدال. أشار ماركس إلى أن حل هذه الأزمة يتطلب إعادة تنظيم جذرية للمجتمع عبر النظام الشيوعي، الذي يُلغي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ويُخطط للاقتصاد بشكلٍ عقلاني، مع مراعاة القدرة الاستيعابية للطبيعة. هذه الرؤية تُشكّل أساس مفهوم «الحضارة البيئية»، الذي يدمج بين العدالة الاجتماعية والاستدامة.

٤- من الأنثروبوسين إلى الحضارة البيئية... نقد التفسيرات الليبرالية

رغم أن مصطلح «الأنثروبوسين» يُسلط الضوء على الدور البشري في التغير البيئي، إلا أنه غالباً ما يُقدَّم بصيغةٍ محايدة، وكأن «البشرية جمعاء» مسؤولة عن الأزمة. لكن الماركسيين مثل جيسون دبليو مور وإيان أنغوس يرفضون هذه التعميمات، مُؤكدين أن المسؤولية الحقيقية تقع على الرأسمالية العالمية كنظامٍ تاريخي. فمنذ القرن السادس عشر، ارتبط التوسع الرأسمالي باستعمار الأراضي ونهب موارد الجنوب العالمي، مما خلق تفاوتاتٍ بيئيةً هائلة، فالدول الغنية تُنتج معظم الانبعاثات، بينما تتحمل الدول الفقيرة تبعات الكوارث المناخية.

الحل المطروح هنا ليس إصلاحاتٍ تدريجية، بل ثورة اشتراكية تُنهي هيمنة رأس المال، وتُؤسس لاقتصاد دائري (Circular Economy) يعيد تدوير الموارد ويقلل النفايات. هذا التحول يتطلب إعادة تعريف مفهوم التقدم ذاته، فبدلاً من قياسه بالنمو الاقتصادي المجرد، يجب أن يعكس تحسين جودة الحياة والانسجام مع الطبيعة.

٥. التحديات والانتقادات: هل الماركسية قادرة على استيعاب التعقيد البيئي؟

واجهت الماركسية البيئية انتقاداتٍ من عدة جهات:

  • الاختزالية الاقتصادية: اتهامها بالتركيز على علاقات الإنتاج وتجاهل العوامل الثقافية أو التقنية .
  • التاريخ السوفييتي: يُشار إلى أن التجارب الاشتراكية السابقة (مثل الاتحاد السوفييتي) تسببت في كوارث بيئية، كتجفيف بحر آرال .
  • الجدلية والطبيعة: شكوك حول إمكانية تطبيق الجدلية الماركسية على النظم البيئية غير البشرية .

لكن المدافعين عن الماركسية البيئية يردون بأن:

  • النقد الماركسي لا ينفصل عن تحليل البُنى الثقافية (مثل ثقافة الاستهلاك) ، التي تُشكّلها الرأسمالية .
  • الكوارث البيئية في الأنظمة الاشتراكية نتجت عن انحرافاتٍ عن المبادئ الماركسية، وليس عن النظرية ذاتها .
  • الجدلية الماركسية قادرة على تفسير التفاعل بين الضرورة الطبيعية (محدودية الموارد) والحرية البشرية (القدرة على التغيير).

٦- نحو حضارة بيئية: المبادئ والرؤية تشمل ملامح «الحضارة البيئية» المقترحة :

  • إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج: لضمان توزيع الموارد بعدالة.
  • التخطيط الديمقراطي: حيث تُحدد الأولويات البيئية عبر مشاركة المجتمعات المحلية.
  • إعادة تعريف الثروة: ليس بالتراكم المادي، بل بتحقيق الرفاهية الإنسانية وحماية التنوع الحيوي.
  • العدالة البيئية العالمية: تعويض الدول الفقيرة عن الأضرار التاريخية، وتمكينها من تقنيات مستدامة.

هذه الرؤية لا تعني العودة إلى حياةٍ بدائية، بل تبني تكنولوجيا متوافقة مع البيئة، مثل الطاقة المتجددة والزراعة العضوية، مع ضمان سيادة الشعوب على مواردها.

الخلاصة

تكشف الجدلية الماركسية أن الأزمة البيئية ليست قدراً محتوماً، بل نتيجةً لتناقضات النظام الرأسمالي، الذي يعامل الطبيعة كـ«بئر بلا قاع» للربح. يتطلب الخلاص تحولاً جذريّاً نحو نظامٍ يعيد توحيد التحرر الاجتماعي مع التحرر البيئي، عبر ثورةٍ تُنهي هيمنة رأس المال وتُؤسس لعلاقةٍ جديدةٍ بين الإنسان والطبيعة، قائمة على التعاون بدلاً من الاستغلال.

تشين يي وين: أستاذ مساعد في كلية الماركسية بجامعة تسينغهوا في بكين، جمهورية الصين الشعبية. دُعم هذا البحث من قِبل الصندوق الوطني الصيني للعلوم الاجتماعية (24CKS010).

معلومات إضافية

العدد رقم:
1223