أوهام جديدة «الهيمنة أو الفوضى»
يعبُر شعور غامض النفس رويداً رويداً، مزيج من فرح وبهجة تخفف أعباء الروح المتعبة وأمل بجديد ينسلّ من عتمة الليل إلى الصباح، وترقب مشوب بطيف من الخوف ألّا يتعثر في المرحلة المقبلة. بهذه الروح يحاول السوري التقاط اللحظة وقراءة المشهد وفهم ما يجري والانتقال من الانفعال إلى الفعل، بعد أن جرى إبعاده عن دائرة القرار والفعل لسنوات طوال.
وكما يحدث في كل حدث مفصلي أو تحول تاريخي، يستثار جدل واسع تتضارب فيه الآراء وتتقاطع، ويساهم جزء كبير من الفضاء الإعلامي وراكبو الموجة ومروجو الإشاعات بإثارة المزيد من الغبار واللعب على تأجيج العاطفة وتغليبها على التفكير السياسي العميق والهادئ المطلوب في هذه اللحظة، في محاولة لرسم أطار جديد للمشهد، مشهد لا توحي ملامحه باتفاق القوى الفاعلة حول النتائج المرجوة منها، حسب ظنهم.
رغم ابتعاد السوريون عن الفعل السياسي بأشكاله المتنوعة، حزبية ونقابية ومدنية وإلخ، وبالدرجة الأولى عن الشكل الحزبي له، إلا أنهم يدركون من تجربتهم أن الانتقام دوامة لا تسير باتجاه واحد، وأن الانطلاق من التعاطي مع الواقع السوري من ثنائية «الهيمنة أو الفوضى» لا تصنع نصراً لأحد، فالنصر لا يصنع بالقتال وحده، بل بالتفكير الجدي والعميق. ويدركون أيضاً أنه عند التعرض لأية قضية يجب وضع الاحتمالات المتنوعة والمختلفة وحتى المتناقضة منها على الطاولة وبحثها جماعياً، وعدم الاكتفاء بتحطيم نمط الحياة القديمة بل الانشغال برسم ما ستكون عليه البلاد لاحقاً، ففي أيام الأحداث الكبرى تكون الخطوة الأولى أن يفكر الشخص ما العمل؟
اليوم يعلن الناس عبر الفعل والحراك المباشر، عن رغبتهم بالقطيعة مع كل الذي عايشوه مكرهين في السابق، برموزه وبنيته وقوانينه.... إلخ، إضافة إلى كل الآفات الأخلاقية والنفسية والاجتماعية الناتجة عنه والتي اجتمعت وتعمقت مع آفات أوجدتها السنوات الأخيرة التي تلت انفجار الأزمة، قائمة طويلة فيها عناوين ملفات عديدة وضخمة لدرجة مرعبة (سياسية واقتصادية واجتماعية وحقوقية ووطنية... إلخ)، تندرج تحتها عناوين فرعية: فقر مطلق وصل حد الجوع الفعلي، وبطالة واعتقالات ومخدرات بأشكالها، ودعارة وتهجير وتشتت للعائلات في الداخل وبين الدول، وانحدار فني وفكري وثقافي مرعب... وغيرها الكثير؟ مما جعل مستوى الرضا الاجتماعي ينخفض ويتدنى بشدة، وصل في كثير من الحالات إلى درجة الانعدام.
وكما أكدت قاسيون سابقاً أن الرضا الاجتماعي هو من القضايا شديدة التعقيد، وأن «الأكثر بروزاً ووضوحاً، وربما تأثيراً ضمنها، هو الرضا الاقتصادي؛ أي مدى رضا الناس عن أوضاعهم المعيشية»، حيث ينظر الإنسان إلى «مستقبله الشخصي ومستقبل بلده بعين التفاؤل والرضا، ويكون قادراً على بناء أحلام حتى لو كانت صغيرة، ويثق بإمكانية تحقيقها، على عكس ما يحدث في دول تعيش حالة تراجع طويل الأمد، فتنشأ ثقة من نوع معاكس؛ ثقة بأن المستقبل أكثر سوءاً من الحاضر، وهو كافٍ لخفض معدلات الرضا الاجتماعي»، من هنا تأتي ضرورة تحقيق درجة متوافق عليها من الرضا، تتحقق فيها كرامة المواطن ويتوفر فيها مستوى معاشي كريم، وهو ما يتطلب حريات سياسية ووعياً سياسياً وفكرياً يمكن للسوريين من خلاله تحقيق مصالحهم وإرادتهم، عبر برامج سياسية واقعية تساعدهم في الحصول على «السلطة والكرامة والثروة».
تحمل الدوافع الثقافية والفكرية والذهنية، عند الناس ضمنياً جذوراً اقتصادية واجتماعية عميقة تتطلب الكثير من البحث للوصول إليها وفهمها وتحديد نقاط التلاقي فيها لتساهم في بناء هوية ذاتية جديدة جامعة.
ينخرط الناس اليوم في النشاط السياسي بصور مختلفة وبدرجات متفاوتة. ويحاولون إيجاد تمثيلات سياسية حقيقية تعبر عن مصالحهم وما يريدونه، بعد تجربة مريرة مع تمثيلات واصطفافات اختطفت حراكهم سابقاً، وجعلتهم يدفعون ثمناً باهظاً جداً، ولكنهم أيضاً تعلّموا من خلالها ما هو مطلوب، اصطفاف من نوع آخر أكثر جذرية وأكثر وضوحاً، عابر لاصطفافات التأييد والمعارضة والرمادية، وعابر للاصطفافات القومية والدينية والطائفية والعشائرية، لتحقيق المهمة الأشد صعوبة وتعقيداً وهي بناء الجديد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1206