بعيداً عن الشعارات... «صندوق العجائب» الأمريكي!

بعيداً عن الشعارات... «صندوق العجائب» الأمريكي!

تفصح مظاهر الانحدار عن نفسها على شكل حالة من التوتر والارتباك والتخبط وصولاً إلى فقدان السيطرة. في عالم تتغير فيه الظروف والمعطيات بتسارع شديد يعطي استخراج أدوات قديمة فقدت صلاحيتها واستخدامها في معالجة مشاكل الحاضر والمستقبل مفعولاً عكسياً، ويكرس حالة الهبوط والانحدار.

يطلّ مشروع قانون «التعليم الحاسم عن الشيوعية» الذي يستعد مجلس النواب لتمريره، وتقوده النائبة ماريا سالازار، (جمهورية عن ولاية فلوريدا)، بحجة توعية الطلاب حول «جرائم الشيوعية»، ليس فقط لإعادة استحضار المناخ السياسي المناهض للشيوعية تحت غطاء التعليم، بل كمحاولة لفرض رقابة فكرية وثقافية على أية أفكار يمكن أن تنادي بالعدالة الاجتماعية، ضمن حملة واسعة هدفها ضبط ومنع الشباب الأمريكي تحديداً من دعم الأفكار والحركات اليسارية، خاصة بعد التحول الملحوظ في موقف كثير منهم من القضية الفلسطينية ومواجهتهم لسردية شاعت واستمرت لعقود، وتضامنهم الصريح والمعلن مع الفلسطينيين في الجامعات ومنصات التواصل الاجتماعي وتشكيكهم في سياسات الولايات المتحدة الخارجية، وعلى رأسها التحالف غير المشروط بينها وبين دولة الاحتلال الصهيونية، مما أثار غضب وتساؤل القوى المهيمنة سياسياً وإعلامياً حول قدرتها على الضبط والهيمنة، بعد أن أظهرت الكثير من استطلاعات الرأي أنّ الجيل الشاب أو «جيل الألفية» أكثر ميلاً إلى انتقاد السلطة وسياساتها وأكثر رغبة وانفتاحاً على مبادئ العدالة والقيم الاشتراكية.

ثمة قلق وخوف من انتشار الشيوعية بدأ بعد انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسية 1917، جعلت السلطات الأمريكية حينها تتخذ الكثير من الإجراءات القمعية ضد يساريين ونقابيين... إلخ أسفرت عن موجات من التحقيقات والاعتقالات. وتكرر المشهد لاحقاً فيما عُرف بالـ«مكارثية»، عندما دفع الخوف من الأفكار القادمة من الشرق الأوساط السياسية الأمريكية إلى تأسيس «لجنة الأنشطة غير الأمريكية» لتبدأ الحملة الشهيرة ضد الأشخاص الذين يُزعم أنهم شيوعيون أو حتى متعاطفون مع الأيديولوجية الشيوعية والتي أسفرت عن تحقيقات علنية ومحاكمات شهدت قمعاً وحملات تشهير واسعة ضد كثيرين. لم تقتصر هذه الحملات على السياسيين فقط، بل طالت مبدعين ومثقفين وممثلين وشخصيات فنية ومؤثرين، أمثال آرثر ميلر، وبول روبسون، وشارلي شابلن، وحتى القادة الحقوقيين مثل مارتن لوثر كينغ.

أطلق معهد «هيريتج» مؤخراً «مشروع إستير»، وهو يعتبر بمثابة خطة رسمية لـ «محاربة معاداة السامية» يسعى بوضوح إلى تجريم الأنشطة السياسية المناهضة لـ«إسرائيل». يصف المشروع حركة التضامن مع فلسطين بأنها جزء من شبكة دعم لـ «حماس»، ويربطها بحركات مناهضة للرأسمالية والديموقراطية، (يوضح حجم الخوف من المطالبة بالحقوق الفلسطينية التي أصبحت في نظرهم خطراً على الرأسمالية)، كما يعرض خطة لتفكيك هذه الحركات في غضون عامين عبر حملات تشويه «قانونية» تهدف إلى إضعاف حقوق النشطاء في التعبير عن آرائهم من خلال شيطنة هذه الحركات!

يجيز المشروع استخدام أدوات قانونية مثل قانون مكافحة الابتزاز وقوانين مكافحة الإرهاب وجرائم الكراهية، إضافة إلى تنظيم تحقيقات ضد نشطاء فلسطينيين وحقوقيين. وإحياء أساليب قمعية مماثلة لتلك المستخدمة أثناء «المكارثية». ثمة خطة لتوسيع هذه الحملة لتشمل مجالات التعليم والإعلام، لتطهير المدارس من المعلمين والمواد التي لا تتوافق معها، وللمفارقة فقد نالت الخطة رضا واجماع الأوساط السياسية المختلفة.

ورغم محاولة إظهار أن تركيزها الأساسي ينصب على الشيوعية، إلا أن هدفها الحقيقي أعمق وأبعد من الصراع الأيديولوجي، إذ يجري استخدام رواية «الخطر الشيوعي» لتبرير الاستراتيجية العدوانية تجاه القوى الصاعدة ومنعها من تحدي الهيمنة الأمريكية والغربية في العالم، ودفع الناس إلى تبني مواقف منحازة لسياساتها ضمن ظروف صعبة وبالغة التعقيد.

في لحظة تاريخية صعبة واستثنائية تظهر فيها ملامح التراجع والهبوط على الإمبريالية العالمية في الغرب وتتصاعد التيارات المناهضة لها دولياً وداخلياً يصبح التكرار المستمر للأدوات القديمة واستدعائها نوعاً من الاعتراف الضمني أنها على سكة الهبوط ويخلق مناعة لدى القوى المناهضة لمشاريع الهيمنة الغربية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1207