ساعة الرمل الرأسمالية: جدول الأعمال البربري بين مورزا وغرامشي (2)

ساعة الرمل الرأسمالية: جدول الأعمال البربري بين مورزا وغرامشي (2)

في المادة السابقة أشرنا إلى بعض الأفكار التي تضمنها كتاب «التلاعب بالوعي» لسيرغي قره-مورزا، وفي جوهرها قضية احتضار الحضارة الغربية الفردية وتحليل «الهيمنة الناعمة» ومواجهتها وأهمية عامل الوقت (والتوقيت) في تكتيك المعركة، مع المرور على أفكار غرامشي حول ضرورة تحويل الواقع نحو نمط حياة يتجاوز قوانين الربحية الفردية (الاستهلاكية) من أجل تأسيس «نمط الحياة السياسي» أو ما يمكن أن نسميه نمط «صناعة التاريخ». في المادة الحالية سنقوم بالتوسع في بعض أفكار مورزا وغرامشي، كعلامات لبديل عن الإنسان المتشيّئ وكقاعدة للحضارة المنهارة وبربريتها المدفوع بها.

مورزا عن التشيؤ

يجمل مورزا مواقف العديد من المفكرين والباحثين، ومن ضمنهم العديد من الغربيين، تجاه توقعهم عن «الانحطاط المستقبلي» للحضارة الاستهلاكية التي تشيّء الإنسان. ومن هم على سبيل المثال لا الحصر، دستويوفسكي، غوغول، بوشكين، ثيودور أدورنو، ماكس هوركهايمر، هربرت ماركوزه، ومنهم كان من معادياً للبلشفية أساساً، كغيوركي فلوروفسكي الذي قال: «لا يخطر في بالهم أنه يمكن، بل وينبغي التفكير ملياً، بمصائر الثقافة الأوروبية النهائية... إن إعجابهم المتوهَّم بأوروبا يستر وحسب قلة انتباههم العميقة وعدم احترامهم لمصيرها المأساوي». ومن أرنولد توينبي (المؤرخ وعالم الاجتماع الإنكليزي) يقتبس مورزا :تلا ذلك «الهيمنة الروحية و«دين الديمقراطية» الشمولي» في نهاية الأمر ظهور نمط دولة شمولي في العالم الغربي، يضم في جنباته العبقرية الغربية في التنظيم والمكننة مع مقدرة شيطانية على استعباد النفوس يمكن أن تثير حسد مستبدي الأزمنة كلها والشعوب كلها مجتمعة... أعراض التخلف الروحي في العالم الغربي المعلمن في القرن العشرين جلية...نعلم جميعاً، ونتذكر دائماً ما يسمى «الضلال الحماسي»، الذي يبث الروح في الأشياء غير الحية ويهبها الحياة. بيد أننا نصير الآن على الأرجح ضحايا العكس من ذلك- ضحايا «الضلال الحماسي» الذي يتعاملون به مع المخلوقات الحية وكأنها أشياء لا روح فيها». وحتى نيتشه الذي لخص رؤيته لطريق الحضارة الغربي بالقول: «يا أيها الهيكل العظمي، هل ترتجف؟ كنت سترتجف ارتجافاً أشد لو عرفت إلى أين أقودك». ويعلّق موزرا على المصير الحضاري الغربي بالقول «لننظر إلى كون وضع الإنسان يرتفع أم ينخفض لدى الانتقال من القسر المباشر إلى التلاعب بوعيه. فحتى في «حرب الجميع ضد الجميع» التي تخاض وفقاً لقواعد المجتمع المدني (المنافسة) تقسم الأهداف الخاضعة للتأثير إلى ثلاث فئات، الصديق، الشريك، المنافس. يتفق الأخصائيون على أن الإنسان المتحول إلى هدف التلاعب يسقط تماماً من هذا التصنيف. إنه ليس صديقاً ولا شريكاً ولا منافساً. أنه يصير شيئاً... ما نراه في تكنولوجيا التلاعب بالوعي هو تعبير عن نزعة تشييء الإنسان... هذا يؤثر في البداية في الإنسان غير المنتمي إلى النخبة (إنها تتلاعب بالدهماء). لكن بعد ذلك يتحول هذا النظام إلى «آلة ويشيئ الإنسان عموماً».

بين النبؤات واليوم

ما كان نبوءات في القرنين الماضيين، وحتى في العقود القليلة الماضية، صار واقعاً محققا اليوم. والمواقف التي تتوقع بدمار العالم الروحي ليس للنخبة فقط، بل للعامة أيضاً، وصلت اليوم إلى مرحلة تحققها. فالحضارة الغربية الفردانية الاستهلاكية خلال العقود الثلاثة الماضية توسّعت لتطال الغالبية العظمى من البشرية (نقطة العلام هي انهيار الاتحاد السوفياتي بالتحديد). فالدفعة الأخيرة، على قاعدة التكنولوجيا الحديثة ونمط الاستهلاك المعمم والفرادنية المتوحشة، عمّمت التشيؤ الذي وصفته بعض العقول «المبكّرة». ومن الواضح أن الحديث مهما اختلفت زاوية النظر إليه، أي مع اختلاف النظرة «الأيديولوجية» نحوه (استعرض مورزا مواقف مختلف الباحثين والمفكرين بما يتعدى انتماءهم «الثوري» النظري)، فإن محور النقض والنقد يطال علاقة الإنسان بالعالم. إنها مسألة جوهر الوجود اليومي ونمط الحياة. وإن تحويل هذه المواقف إلى برنامج سياسي يصب في إطار المسألة الحضارية موضع الحديث اليوم، فلا يمكن إلا أن يكون إعادة تشكيل علاقة الإنسان بالعالم ليس كمسألة «ثقافية» بالمعنى القيمي للمفهوم، بل كمسألة وجود ممارسي ملموس، ودور بما يتعارض مع «اللاعقلانية». إذاً، ليس مبالغة القول، وليس جديداً البتة، بأن الحضارة المهيمنة تقتل الإنسان/ العقل/ العقلانية.

غرامشي بين «الدفاع والهجوم»

في «الأمير الحديث» يظهر غرامشي السياسة، كعمل حيّ، كالتحام للعاطفة\الحماس مع النظرية والممارسة المباشرة. أي التحام «اليوتوبيا» و«الموقف العملي» في «الشكل الدرامي للأسطورة». وهذا الالتحام، وإن كان يتمثل بشخص الفرد المفرد (قد يكون القائد السياسي)، فهو التعبير عن «الإرادة الجماعية» التاريخية. هكذا إذاً فإن السياسة «لا تتخذ صورة اليوتوبيا البادرة، أو التنظير العلمي، بل صورة الخيال الجامح المتجسد، الذي يؤثر في شعب مشتت ومحطم ليستثير إرادته الجماعية وينظمها». ومن أكثر من «شعب» المرحلة (شعوب العالم) تشتتاً ويحتاج إلى هذه الإستثارة والتنظيم؟! ويضيف غرامشي «ولكنه ليس الشعب «بالمعنى المجرد» للكلمة، بل ذلك الشعب الذي سبق أن أقنعه برأيه (الكلام هنا عن العقل السياسي الذي يحاول إقامة الانتقالة الثورية في مرحلة من المراحل)، وأصبح يشعر بتوحده معه، وبأنه صار تجسيداً له وتعبيراً عن وعيه». وهذه «الأسطورة»، كاقتحام للتاريخ، تجد التعبير عنها حسب غرامشي «في نشاطها العملي، رمز الإرادة الفاعلة». وهذا التشكّل للإرادة الجماعية الفاعلة يجب أن يتجاوز الأشكال الدفاعية من «التكوين البدائي» (يشير غرامشي هنا إلى التنظيم النقابي كشكل من أشكال التكوين البدائي غير الكافي) «إذ تتفرق الإرادة الجماعية» إلى عدد لا حصر له من الإرادات الفردية التي تتخذ مسارات مختلفة ومتصارعة؟». وهذه «الأسطورة» التي فيها تلتحم مختلف مستويات الوجود المعنوي والمادي، «لا يمكن إلا أن يكون كائناً حياً، أي عنصراً مركباً من عناصر المجتمع الذي أخذت تتشكل داخله إرادة جماعية معترف بها، إرادة أثبتت إلى حد ما وجودها، وتتخذ شكلاً محدداً». ويكمل غرامشي «لقد خلق التاريخ هذا الكائن فعلاً، إنه الحزب السياسي، الخلية الأولى التي تتجمع فيها بذور إرادة جماعية تنزع إلى العالمية والشمول». ولكن هذا العمل، حسب غرامشي، يجب أن يتجه إلى تأسيس دولة جديدة، وهياكل قومية واجتماعية جديدة، لا عمل دفاعي غير قادر على الإبداع الأصيل. فالعمل الدفاعي يفترض «أن الوهن قد دب بالإرادة الجماعية وأصابها التشتت، وأنها تعاني من انهيار خطير ينذر بأوخم العواقب، وأنه لا بد من استجماعها من جديد، بل من خلق إرادة جماعية جديدة من العدم، وتوجيهها لتحقيق أهداف محددة ومعقولة. هو تحدد ومعقولية لم توضع بعد موضع الاختبار الحاسم في تجربة تاريخية معروفة.»
يا لهذا التوصيف الدقيق، الذي يأخذ موقعه في سياق بحثنا الراهن عن الأزمة الحضارية. فالموقف «الإبداعي الأصيل» لا يمكن أن يكتفي بالتجميع لما هو قائم من «إرادات مشتتة» على قاعدة «المعقولية القائمة» نفسها، بل تجاوزاً لها. أي إنه لا يكفي الموقف الدفاعي عبر استخدام عناصر البنى القائمة (القومية، العائلية، الوطنية...)، مهما كان دورها اليوم إيجابياً. فهذا الموقف الدفاعي «سيكون في أغلب الأحوال ملائماً لإعادة الوضع السابق، ولإعادة التنظيم» كما يعبّر غرامشي، أي الحفاظ على اللحمة التي «كانت قائمة». بينما المطلوب هو بناء لحمة جديدة، تنتمي إلى بنية تاريخية- اقتصادية- اجتماعية جديدة.

غرامشي وولادة العقلانية

وإذا ما تجاوزنا المفهوم المعروف للـ «الحزب الثوري»، وعممناه لكي يصير تعبيراً عن الحركة التاريخية والممارسة الجماعية، فإن ولادة العقلانية، ضد «اللاعقلانية» المعممة اليوم (كتعبير عن الانهيار الحضاري الراهن)، تكمن في هذا الفعل التاريخي «الأسطوري» وهذا الاجتذاب والتعبير عن «الإرادة الجماعية» «حماسياً وممارسياً»، والتصدي «لقضية الإصلاح الثقافي والأخلاقي، أي لقضية رؤية للعالم... فالأمير الحديث «الحزب الثوري» لا يمكن إلا أن يكون داعية ومنظماً لإصلاح ثقافي أخلاقي. وهذا يعني أيضاً، خلق أرضية لتطور إرادة جماعية قومية- شعبية.. لصياغة شكل أرقى وأشمل للحضارة الحديثة... ينبغي أن يبنى العمل برمته على هاتين النقطتين الأساسيتين، تكوين الإرادة الجماعية... والإصلاح الفكري والأخلاقي».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1128
آخر تعديل على الأربعاء, 19 تموز/يوليو 2023 20:53