عن وحدة وتفاعل وتناسب البنية الفوقية والتحتية وإفلاس العقل المهيمن (2)

عن وحدة وتفاعل وتناسب البنية الفوقية والتحتية وإفلاس العقل المهيمن (2)

في المادة السابقة حاولنا أن نمهد إلى قضية إفلاس العقل الإمبريالي المهيمن وسرديته عن العالم، وحاجته إلى الاستعارة من عدوه لكي يحافظ على حد أدنى من سردية تمنع ما استطاعت عملية تجاوز الرأسمالية، وبيّنا كيف أن الفوضوية والإصلاحية كنموذجين لتيارات التغيير تاريخياً صارت تقريباً متبناة من قبل السردية الرسمية المهيمنة. ولكن هذا يحصل في جانب واحد من الإفلاس، أما الجانب الآخر الذي يأخذ شكل التدمير الناتج عن العدمية والتفكك بين البنية الفوقية والتحتية واتساع الهوة بينهما. وفي هذه المادة سنعالج هذه المسألة التي يشار إليها مؤخراً، ولكن من الضروري التوسّع فيها أكثر.

إنجلز عن التجاذب بين قطبين

أشار إنجلز إلى أن عالم الأيديولوجيا وبشكل عام يتمحور حول قطبين هما المثالية والمادية، وهذا التجاذب غير الصافي غالباً، يقوم على القطبين الموضوعيين في المجتمع، أي الطبقة الرأسمالية (المعادية للتغيير) والبروليتاريا (التي تعبر عن التغيير). وهذا التجاذب الموضوعي اليوم يقف على عتبة القضاء على كلا القطبين مع ملامح انقراض شامل على الكوكب. وهذا ينعكس بالضرورة على حدة التجاذب الأيديولوجي بالضرورة. أي على حد تعبير لينين، إما اشتراكية، أو رجعية على المكشوف (أو بربرية في الحالة الراهنة). وهذا يدفع عالم الفكر المهيمن عالمياً إلى أقصى أقطاب المثالية، وفي صيغها السوداء. فإذا كانت المثالية الموضوعية (اعتراف بوجود عالم موضوعي) هي صيغة «مخففة» وأكثر عقلانية للمثالية، فإننا اليوم أمام تحقق في مجال الثقافة للمثالية الذاتية التي تنفي العالم الموضوعي ولا وجود فيه إلا للفرد- الذات، والباقي وهم وسراب.

ملامح التجاذب

إذا حاولنا أن نبسط كيف تحضر البنية التحتية على مستوى البنية الفوقية وتحديداً في مجال الوعي هنا، ومعه مختلف أشكال التنظيم الاجتماعي المدني والسياسي، فإن القطب أو الوزن «المادي» لعالم اليوم يمكن أن نلمس حضوره ضمن الفكر المهيمن الذي يحاول تثبيت الواقع في قضية مسألة طبيعة العالم المتغير إلى تعدديات قطبية. أي إن الجانب المادي لسردية وخطاب الفكر المهيمن يأتي من نقيضه. أما الجانب والقطب المثالي، فهو حاضر في الفكر والثقافة التي تحاول دوائر الإمبريالية الأكثر فاشية تثبيتها. وهي في كونها تعبر عن ذروة المثالية الذاتية، فهي تعبر عن نفسها كثقافة إلغائية لما هو آخر، وتلغي وجوده بالأساس، وهو ما نراه متجسداً في «ثقافة الإلغاء»(Cancel Culture) كمفهوم تطور في العقد الماضي وهو تعبير عن السياسة تفرضها الفاشية الإمبريالية في ميدان الوعي والثقافة (وأبرزها قضية ضرب التعريفات المستقرة والرأي الآخر وتطوير لوثة «النسبية المطلقة والشكوكية» إلى نهايتها المنطقية في إلغاء تعريف وحدة الواقع وتعميم عدمية الوعي، حيث لا تشكل الهويات وتحديداً الجنسية إلا جانباً واحداً منها؛ أي إلغاء الحقيقة بالمطلق إلا حقيقة حامل الفكرة. أليس هذا هو تعبير صاف عن المثالية الذاتية؟!). وإذا كان هذا العدم في الميدان الثقافي والفكري هو تعبير عن الهوة الكبيرة التي تفصل البنية الفوقية الحالية عن البنية التحتية والمهام التي تفرضها. فالبنية الفوقية ومن أبرز مهامها هي تبرير وعقلنة وإعادة إنتاج وتوسيع البنية التحتية وتنظيم الحركة الموضوعية للمجتمع. وهاتان البنيتان توجدان مفصلتين نظرياً فقط. فهما في واقع الأمر في وحدة جدلية هي وحدة العقل- الممارسة. فالعقل في النهاية يتحقق كعقل مادي لأفراد ماديين حقيقيين، ولهم منظورهم عن العالم وعن أنفسهم.
وهذا التوتر رأيناه في العلم يتطور أمام أعيننا على مدى عقود. ففيغوتسكي هو من وطّن مقولة أنجلز عن توتر القطبين في مجال علم الإنسان (علم النفس والعلوم العقلية- السلوكية بشكل خاص). أشار فيغوتسكي إلى أن عوارض أزمة العلم، التي تقوم على هذا الانقسام بين القطبين الذاتي- الموضوعي (المثالي- المادي، الجسد-العقل...) يمكن إيجازها بالتفكك العام للنظريات، ضيق هامش النظر، الغرق في التجريبية، غياب النظرية، وأيضاً التوالد المستمر والمتعاظم للأفكار والتيارات. وإذا انطلقنا من قضية منهجية هي أن العلم كشكل خاص من الوعي هو شكل مبكر عما يمكن أن يصيّره الوعي «العام العادي»، فإن التوتر اليوم في مجال الأيديولوجيا والثقافة هي تعبيرات عما شهده العلم في أزمته خلال العقود الماضية. وهناك فكر توتر في مجال الثقافة والفكر نلمسه في مدى الصخب المتصاعد أينما كان حول قضايا الواقع، وغياب المرجعية النظرية «الكلاسيكية» في ذات الوقت، واعتماد السلوك (التجريبي) والانتقائية. وهذا كان دليلاً على الأزمة، فهو كما يقول فيغوتسكي دليل على غنى الظاهرة وعلى الممكن الكامن فيها.
إن وصول هذا التجاذب التاريخي إلى ذورته بين قطبي المادية والمثالية يمكن أن نرده نسبياً إلى أن مثالية هيغل الموضوعية تمّت تصفيتها خلال عقود الليبرالية على قاعدة التطور التي كثر الحديث حولها سابقاً حول الهوامش التي فتحتها الليبرالية في العقود الماضية للقوى المنتجة البشرية وفي ذات الوقت حرمتها من التحقق. أي التحقيق الجزئي لمعادلة هيغل عن التحقق، فهي ما أمنت قاعدة الممكن والضروري للتحقق الذاتي (توسيع هوامش حضور الذات-الفرد)، ولكن لم يتم تحويلها إلى حرية (أي إن التحقق وتحصيل الاعتراف يحصل فقط عندما يصير الفرد ضرورياً للمجتمع ولنفسه). ومن هنا ضرورة مشروع «الهيمنة المقبلة» أو المستقبلية حسب غرامشي الذي هو التوتر بين خطي «الأممية» الثوري (عالم الاشتراكية) و«القومية» الإصلاحي (عالم تعدد الأقطاب).
وهنا نصل إلى قضية أساسية هي أن العلاقة بين البنية الفوقية والتحتية وصلت اليوم إلى مرحلة حرجة ناتجة عن أن البنية الفوقية ولكي تقدر على تبرير البنية التحتية وما ينتج عنها من علاقات اجتماعية وظواهر اقتصادية واجتماعية، فإنها بكل بساطة تقوم بتعميم البربرية المطلقة والشاملة، وتحطيم للحضارة هو تحطيم للعقل الإنساني.

في أزمة البنية الفوقية وضد ميكانيكية العلاقة بين الفوقي والتحتي

إن أزمة الرأسمالية كنمط حياة، والتي صرنا نسمع عنها أكثر فأكثر على لسان الدبلوماسية «الصاعدة» لدى قوى العالم الجديد، تؤكد على مسألة أن التوتر بين الخط «الأممي» و«القومي» يتطور لصالح الأول، انطلاقاً من ضرورات الدفاع عن الحياة التي لا يمكن أن يتم الدفاع عنها إلا من خلال تبني مصالح «الفئات الأساسية العالمية» إذا استعرنا تعبيرات غرامشي. وهو دليل على ضرورة خلق التناسب بين الفوقي والتحتي. ففي حركة المجتمع يتفاعل الفوقي والتحتي في وحدة «تناقض» جدلي. والتحتي هنا يتضمن بالضرورة ليس فقط الإنتاج والاقتصاد، بل المستوى «الذاتي» من الظواهر الموضوعية، أي العناصر الذاتية من الوجود الاجتماعي-النفسي. أي إن الواقع لكي يصير واقعاً عقلياً معكوساً في وعي الأفراد يشهد عملية انعكاس موضوعية لا يتدخل الأفراد فيها، بل هي ترتبط بحاجاتهم في المرحلة التاريخية الراهنة، وظروف وجودهم وأهدافهم ودوافعهم. وهذا الانعكاس ينتج نظام المعاني الديناميكي الذي يشكل الانعكاس الذاتي للوجود الفعلي الممارسي. هذا النظام من المعاني (Meanings) الذي هو خامة ونسيج وبنية الوعي ككل، هو الذي يحاول البناء الفوقي استيعابه إما في قمعه، أو في حالة الليبرالية استيعابه في منظومة رموز تعطي المعاني تفسيرها العقلاني(Sense making) انطلاقا من قاعدة أيديولوجية القوى المسيطرة وقيمها.
وهذا يُظهر عضوية والتحام الفوقي والتحتي في وحدة جدلية ضمن بنية الوعي والممارسة على صعيد وجود الأفراد أنفسهم. فتحويل المعاني الموضوعية إلى معانٍ عقلانية واعية هو نفسه تحويل الكامن إلى واقعي. وإلا فإننا ليس أمام انفصال فضاء المعاني الموضوعية عن المعاني العقلانية الذاتية. وهذه مرة أخرى ترجمة للتجاذب بين القطبين، حيث إن المعنى الموضوعي هنا يمثل الجانب المادي، بينما المعاني الذاتية في اعتمادها على الثقافة والأيديولوجيا الرسمية تمثل الجانب المثالي. عدم التناسب هذا «بحد ذاته لا يخلق سوى دمار قادر على التحول إلى كارثة نفسية «(من كتاب ليونتييف، من كتاب الوعي، الشخصية والنشاط؛ ليونتييف هو الذي طور إلى حد بعيد فكرة فيغوتسكي عن تمايز فضاء المعاني الموضوعية (Meanings) والمعاني الذاتي العقلاني (Sense making)). واليوم نحن أمام انهيار قدرة السردية الليبرالية على استيعاب المعاني الموضوعية الكامنة المرتبطة بشكل وثيق ليس فقط في تفسير العالم الموضوعي وتحولاته على المستوى العالمي-السياسي، بل أيضاً حول حياة الأفراد وعلاقتهم بالعالم ومعنى وجودهم، أي جوهر أزمة الاغتراب التي وصلت إلى مستوى تاريخي صريح. هذه الكارثة التي تعبر عن نفسها في الهجوم الذي يعادي حتى القوى التي حاولت الليبرالية نفسها استيعابها مسبقاً، ومؤشر «المقاومة» النفسية والقيمية لقوى اجتماعية في الغرب ضد فروع وتمظهرات الـ«Cancel culture» دليل على مدى التوتر بين ما هو كامن وما هو إفلاس غير قادر حتى على تحوير الواقع واستيعابه، فهذه المرحلة قد انتهت.
وكخلاصة، إن التداخل العالمي وحماية القوى المنتجة وفتح طريق تطورها سيفرض ويتطلب رفع وزن المستوى «السياسي» (أي برنامج الهيمنة المقبلة- الكامنة) على حساب «التصور المحافظ» واستقرار الواقع نحو بناء الحاضر والمستقبل (الحاضر ككامن) على حد تعبير غرامشي. ومراجعة تحليل غرامشي لعدم سكونية الصراع وميكانيكيته يظهر أن القوى التي تفلتت من هيمنة المشروع المقبل، تتوظف بالضرورة لصالح المشروع الرجعي (مثال خزان القوى الفاشية). وهنا بالتحديد يكمن دور ليس فقط عناصر المواجهة الثقافية لعالم بديل جديد نقيض يحقق المعاني الموضوعية التي يحاول البناء الفوقي الإمبريالي الحالي خنقها، بل تطوير برنامجها الممارسي ونمط حياتها حتى «لا تهلك كلتا الطبقتين المتصارعتين» على حد تعبير ماركس وأنجلز. وهذا يشكل القاعدة المادية لتصاعد الوزن السياسي الأممي- الثوري، الذي له بالضرورة برنامجه الداخلي الذي يناسبه من تجاوز الرأسمالية بمعزل عن المدى الزمني الذي قد تسلكه هذه العملية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1102