أمـبـرتو إيكو: الـطـــلــيــعــيـة فـي الـ sms والـ chat rooms
إذا أردنا مقاربة موضوع ما بعد الحداثة في الآداب والفنون، يجب أن نميّز بداية بين التجريبية والطليعية، ففي حين تنزع التجريبية الى استفزاز داخلي ضمن دورة النصّ أو العمل الفني، تتوق الطليعية الى استفزاز خارجي، يطال الجسد الإجتماعي ككل. وإذا كان هناك من معنى للطليعية، فهي أنها تولد دائما عندما وحيث لا نتوقعها:
اي أننا يجب ألا نبحث عن الطليعية في اوساط شعراء يكتبون باللغة التي نستطيع إدراكها، بل ان واجب المجددين ان يكتبوا الشعر بطريقة لا يسع شعراء اليوم أن يتخيلوها حتى. طبعا، من الصعب جدا ان نحدّد الطليعية لأن ثمة ميلاً في الغالب الى المزج بينها وبين عمليات تجديدٍ محض لغوية، في حين أنها ليست مرتبطة باللغة الصرفة، بل بالرؤيا: كان جزء كبير من الحركة السوريالية مثلا يستخدم لغة تصويرية تقليدية جدا، لكنّ عنصر التجديد الذي أدخلته تلك الطليعية كان موجودا في مكان آخر، في الصور، في الوجدان التخييلي، في كهرباء العقل الباطن، في النظرة الى الحياة نفسها، الخ... تاليا قد تكون الطليعية تتخمّر اليوم في قطاعات نعجز في الوقت الحاضر عن تخيّلها بما نملك من ادوات وقدرات ومؤهلات، لكننا سوف نعي لاحقا انها اثّرت في ادب زمننا او رسمه او شعره أو مسرحه. في المقابل، ينبغي لنا أن نشير إلى أن التاريخ شهد أخيرا عمليات تعجيل مذهلة بسبب التطور التكنولوجي. ففي أوائل القرن العشرين، كان مفهوم الطليعية يقوم على اقتراح جديدٍ لم يكن الجهاز المجتمعي مستعدا لفهمه وقبوله واستيعابه بسهولة. اما اليوم فنحن امام مجتمع قادر على استيعاب كل ما يقدَّم إليه فورا: فإذا ابتكرتُ مثلا هنا وفي هذه اللحظة شكلا جديدا لكتابة الشعر، لا بد من ان يكون هذا الشكل قد أصبح منتشرا غدا بواسطة الانترنت حتى في تومبكوتو مثلاً . وتلك الجهوزية العالية لاستيعاب الجديد تغيّر تدريجا من دون شك مفهومنا للطليعية، التي كانت تتبع قبلا مسارا زمنيا خطيا، في حين بات مسارها اليوم ذا بنية إشعاعية، لا نعـي أحجامها وأهدافـها المختلفة. ربما سـتـأتي الطليعية بواسطة الـ sms أو الـ rooms chat ، وسيحققها فتيان هم مجهولون الآن،
إلا أننا سنكتشف بعد خمسين عاماً أو مئة عام أنهم كانوا هنا، وانهم غيروا كل لغتنا وقلبوها رأسا على عقب. في أي حال، فإن الحركات الطليعية لايمكنها أن تعيش إلاّ فصلا زمنيا قصيرا، وإلا سرعان ما تصبح تقليدا. فهدف الطليعية الأهمّ هو ان تخترق المجتمع كالبرق وتزرع فتنتها وتوتّرها وصدماتها فيه، ثم تنتحر. لكني شبه مؤمن بأن لغة عصر الأنوار الجديد سوف تشرق من تقنيات التواصل المتطورة، من الانترنت، وإن كان ما زال علينا أن ننتظر لكي تتضح ظلال هذه الغابة المفترسة والرائعة التي اسمها «الشبكة». هل نحن في حاجة الى طليعية، الى تجديد، الى تغيير؟ من دون شك. لكنه تغيير لا نعرف عنه شيئا بعد، سوى أنه ضروري، حيوي، وآت لا محالة.