أفلام في خدمة الحملة الانتخابية الأمريكية أم حملات انتخابية في خدمة الأفلام؟؟
لطالما تداخلت السينما في أمريكا مع السياسة باشكال متنوعة، وكثيراً ما كانت السينما تتقاطع مع هذه السياسات أو تختلف معها وبأنواعها المختلفة وثائقية كانت أم روائية، ووصل هذا التداخل إلى درجة أن وصل ممثل غير موهوب كرونالد ريغان إلى سدة الحكم عن طريق (هوليود /واشنطن) وها هو أرنولد شوارزنغر في نفس الطريق الآن وقبل أشهر من الانتخابات الأمريكية تتجدد هذه العلاقة بين السينما والسياسة ففي وقت متقارب قدم إلى الجمهور الأمريكي والعالمي فيلمان الأول روائي بعنوان (الغد) ويحمل توقيع المخرج السينمائي المعروف إيمريتش،
والثاني وثائقي (9/11 فهرنهايت) للمخرج الوثائقي مايكل مور الذي سلطت عليه الأضواء السنة الماضية، فيلمان يحاكيان الانتخابات الأمريكية وإن بطريقتين مختلفتين، ويطرح هنا سؤال كبير ضمن آليات عمل الانتخابات الأمريكية والـ(ديمقرطية الأمريكية)من يستفيد من دعاية بهذا الحجم لهذه الأفلام، أفلام مناهضة لبوش، في وقت الانتخابات من يكسب دعاية أكبر بوش أم (الغد) و(9/11 فهرنهايت) في هذا العدد من قاسيون نعرض لمقالين عن كل من فيلمي إيمريتش ومايكل مور.
■ المحرر
فزع في البيت الابيض مع فيلم «الغد»
يستند فيلم «ما بعد الغد» لحقائق واقعية مقدماً سيناريو كارثياً لما قد ينتج عن ظاهرة الإحتباس الحراري بسبب تصلب رئيس أميركي يشبه بوش فالرئيس الاميركي جورج بوش منذ اعتلائه سدة الحكم منذ ثلاث سنوات ونصف السنة ظل ينظر إلى مسألة الاحتباس الحراري على أنها مبعث قلق مفتعل لقليلين من دعاة حماية البيئة الهامشيين يستندون إلى معلومات مشوشة لاثبات نقطة سياسية.
الآن وقد لاحت الانتخابات في الافق والمنافسة محتدمة بين بوش ومنافسه المنتظر السيناتور جون كيري فإن فيلما سينمائيا جديدا ظهر محدثا دويا واسعا وهو يتناول أحداثا مفاجئة وعنيفة ستقع بسبب الاحتباس الحراري ويثير الفيلم حالة من الفزع في البيت الابيض.
المقصود من فيلم «ما بعد الغد» أن يكون أضخم فيلم يتناول الكوارث الطبيعية. الفيلم من إخراج رولاند إيميريتش الذي أخرج أعمالا منها «غوزدزيلا» و«يوم الاستقلال» ويتناول أحداثا محتملة الوقوع استنادا إلى نظريات علمية أساسية بشأن تكون غازات الصوبات الزراعية والاحتباس الحراري.
الرؤية التي يقدمها إيميريتش تقول إن ارتفاع الحرارة على سطح الارض سيؤدي إلى ذوبان الجليد في المناطق القطبية ليدفع بالمياه الباردة إلى المحيطات فترتفع مناسيب المياه في البحار وتؤدي إلى كارثة تتمثل في نشأة عصر جليدي في العالم خلال ثلاثة أيام فحسب. يتساقط الجليد في نيودلهي وتضرب حبات البرد بحجم البطيخ طوكيو وتدمر الاعاصير الهائلة لوس أنجيلوس كما تدمر الموجات المدينة الضخمة مانهاتن قبل أن تصبح متجمدة في موجة برد هائلة.
المؤثرات الخاصة أكبر من أن توصف بالرائعة. فالفيلم من إنتاج هوليوود لكن التحذيرات الجادة التي يصدرها دينيس كويتد الذي يقوم بدور خبير مناخ يكون مصيرها التجاهل الذي تنجم عنه كوارث بسبب رئيس قاسي الفؤاد يشبه نائب الرئيس الحالي ديك تشيني وكأن المخرج اكتفى بهذا التشبيه لعدم إثارة سخط الرئيس بوش. والمؤكد أن كويد لم يتهرب من توضيح رسالة الفيلم. فقد قال في مقابلات إعلامية «إنه حكاية تستهدف التحذير مما يمكن أن يحدث إذا واصلنا استفزاز الطبيعة الام. ويتسبب تكرار هذه الحكاية على مسامع الملايين من الاميركيين في إثارة قلق البيت الابيض من أنها قد تقلب الموازين في غير مصلحة الرئيس الحالي حينما يتوجه الناخبون إلى مراكز الاقتراع في تشرين الثاني/نوفمبر.
وفي حال رفض بوش اتفاقية كيوتو لعام 1997 بشأن الاحتباس الحراري على الارض وخفضه معايير الهواء النقي وتخفيفه من القيود على قطع أشجار الغابات والتنقيب عن النفط هي تصرفات جلبت عليه نقمة دعاة حماية البيئة.فقد ساورت البيت الابيض مشاعر قلق من أن الفيلم يمكن أن يقنع الناخبين بالتحول بتأييدهم نحو كيري وبلغ القلق حدا جعل الادارة الاميركية تأمر المسؤولين بعدم التعليق على الفيلم بل إنها أصدرت تعليمات إلى علماء وكالة الفضاء والطيران الاميركية/ناسا/ بالامتناع عن إجراء مقابلات بشأن التغير المناخي. لكن كثيرا من علماء غيرهم يتكلمون ورغم أنهم يقررون أن أحداث الفيلم تصورات بعيدة الاحتمال فإن قلة منهم تؤكد المقولة الاساسية عن أن الاحتباس الحراري ينطوي على خطر شامل.وتتناقض وجهات نظرهم تناقضا حادا مع الرأي الشائع في البيت الابيض عن أن الاحتباس الحراري على وجه الارض مازال بحاجة إلى إثبات وأية زيادة في الحرارة قد يكون مرجعها إلى التغيرات في الدورات المناخية الطويلة الامد لا إلى التزايد في غازات الصوبات الزراعية. تقول البروفيسور سوزان لوزيير من جامعة ديوك »التغير المناخي على الارض كما يظهر في الفيلم وحيث يحول الاحتباس الحراري التيارات البحرية الدافئة ويغرق العالم فجأة في عصر جليدي جديد يمكن أن يحدث في عالم الواقع ولكنه قد يستغرق عقودا أو حتى قرنا من الزمن وربما أكثر«.وتضيف لوزيير »الواضح أن الزمن في هوليوود ليس هو نفسه الزمن الجيولوجي«. ويوافق على هذا الرأي الدكتور دانيال شراج من جامعة هارفارد ويقول »يبالغ الفيلم كثيرا في السرعة التي يمكن أن يحدث بها التغير المناخي. ومع ذلك فإن النتائج النهائية للتغير المناخي الذي سيقع على مدار عقود وليس أياما من الممكن أن تكون بنفس القسوة والكارثية كما يظهر في الفيلم».
يشكل الفيلم عنصر دعم لدعاة حماية البيئة كما هو فيلم المخرج ميل جيبسون «آلام المسيح» للكاثوليك المتشددين.
نائب الرئيس الاميركي السابق آل جور وهو من مناصري قضايا البيئة حث الشعب الأمريكي على مشاهدة الفيلم ويعمل على الترويج له مؤكدا خطورة وحقيقة الاحتباس الحراري وأن بوش لم يفعل شيئا لوقف هذه الظاهرة. وأنشأت جماعات الدعوة لحماية البيئة مثل تحالف طاقة المستقبل مواقع على الانترنت توضح معنى الاحتباس الحراري ومضت قناة «ويذر»(الطقس) إلى ما هو أكثر بإعداد مواد عن الموضوع بتوسع لتتواكب مع عرض الفيلم. وربما يعمق الفيلم من مشاعر الريبة في نفس بوش في أن هوليوود المشهورة بليبراليتها إنما شرعت في الهجوم عليه. في فيلم «الغد» لن يكون لمناصري بوش شكوى. فقد تولت إنتاج الفيلم شركة تونتيث سنشرى فوكس وهي شركة يملكها واحد من أشد مؤيدي بوش وهو إمبراطور الاعلام روبرت ميردوخ. وربما لا تكون الفوضى التي أثارها الفيلم بالنسبة له سوى طريقة للإعلان عن الفيلم.
مايكل مور.. وضربة جديدة لبوش
في فيلمه الأخير Fahrenheit9/11 نال مور سعفة كان الذهبية، يتقاطع عنوان الفيلم مع آخر لفرنسوا تروفو عن حرق الكتب في المرحلة الفاشية ويحمل هذا الفيلم عنواناً فرعياً وهو «درجة الحرارة التي تحترق عندها الحرية». في إلماع مباشر الى مبدأ الحرية الذي ينهض عليه الخطاب الرسمي الأميركي فيما يمارس نقيضه في الداخل والعالم، اذ يكفي التذكير بمنع عرض الفيلم في الولايات المتحدة ومحاربته ومحاربة مخرجه والضغط على شركات التوزيع لعدم توزيعه، حتى ان مِلْ غيبسون نفسه امتنع عن انتاجه إثر تلقيه اتصالاً من البيت الأبيض (!) ويُخشى ان يواجه جون لانديس المصير عينه مع شريطه الوثائقي الانتقادي Slasher عن بائعي السيارات المستعملة ويبدأ بمشاهد لسياسيين يهذون كذباً، وفي مقدمهم جورج بوش معلناً للتلفزيون البولوني انه تم للتوّ أكتشاف اسلحة الدمار الشامل في العراق!
في «فهرنهايت 11/9» الذي أرعب بوش والسلطات الأميركية الى حد المطالبة بمنع عرضه ومحاصرة الموزعين وترهيبهم، يكشف مور العلاقة القديمة والوثيقة بين آل بوش وعائلة بن لادن، وبرهانه الموثّق عن ذلك انه غداة سقوط برجي مركز التجارة العالمي تمّ ابعاد افراد عائلة بن لادن الموجودين على أرض الولايات المتحدة وحمايتهم من جانب الشرطة الفدرالية. كما يعتمد الفيلم على توليفة مضحكة للرئيس الاميركي في وضعيات تثير الهزء والقهقهة عرضت مقاطع على التلفزيون كنموذج يتضمنه الشريط الذي لم يعرض بعد إلا في إطار مهرجان كانّ ولجمهوره المحدود وعلى شهادات حية من العراق حيث التوليف المتوازي، مثلاً، بين امرأة عراقية باكية والمغنية الأميركية بريتني سبيرز التي تؤيد الحرب ضد العراق!
كأن مايكل مور آخر «اليساريين» في اميركا التزاماً بقضايا شعبه، العامل والفقير والمهمّش بخاصة، وإن لم يكن الفنان والسينمائي الوحيد في معركته المبدئية هذه ضد الفساد والانحراف والكذب ورسم السياسات الظالمة في أروقة الظلام. يسعنا أن نذكر اسماء شون بن (زار العراق قبل بداية الحرب ووجه رسالة لاذعة الى بوش في كبريات الصحف الأميركية) وسوزان ساراندون وتيم روبنز وجون سيلز وغْلِنْ كلوز وروبرت ردفورد وآخرين... لكنّ هؤلاء، على عكس مايكل مور، مناهضون هادئون. وحده يخوض مهمة الكشف المرتفعة الصوت، الجريئة القول، الفاقعة السخرية، المريرة الهزء والهجاء. فبغير ذلك لا يكون مايكل مور هو مايكل مور.
بورتريه من هو مايكل مور؟
مايكل مور في الخمسين من عمره، ابن عامل بسيط من مدينة فلينت الكئيبة ناحية ميشيغن حيث تهيمن مصانع «جنرال موتورز» وحيث صوّر مشاهد فيلمه الأول «روجر وأنا»، الوثائقي المخصّص لمعالجة النتائج المأسوية لانتقال المصنع الى المكسيك، من بطالة وبؤس اجتماعي وتهديم للبنية الاجتماعية. وعبر هذا الفيلم دعا مور الى اكتشاف الوجه الآخر من «المعجزة الاميركية الاقتصادية». ولفت الفيلم انظار الاميركيين ووزعته شركة «وارنر» في الصالات حيث عرف نجاحاً ضخماً. لكن هذا الفضّاح العنيد الذي تعلّم العناد من الراهبات في مدرسته الابتدائية الأولى مثلما تعلّم منهن ألا يخشى شيئاً ولا يهاب أحداً، خاض في مجالات تعبيرية أخرى قبل السينما، فأنشأ مجلة ساخرة كانت بطاقة عبوره وانتقاله الى التلفزيون «تي في نيشن» وألّف كتباً (أشهرها «رجل أبيض غبي» منع «وبيع منه مليون نسخة وحاز مور شهرته عام 1989 في الخامسة والثلاثين من عمره.
بيد أن قوته في السينما التي يكشف بواسطتها، وعلى نحو تسجيليّ يحملها نظرته الذاتية مع الدعابة المرّة الماثلة في أفلامه. فغايته ليست إصابة المشاهدين بالكآبة أو »خلع الأبواب المفتوحة«، في تعبيره، فحقائق المجتمع الاميركي المرّة معلومة، ومن غير المجدي اظهارها على نحو فائق الجدية والمأسوية. السخرية المريرة سلاح فاعل في يده، حتى وهو يعالج موضوعات اجتماعية قاسية في فيلمه الثاني The big one )1999( شبيهة بفيلمه الأول Roger and me، أو في الشريط اللاحق ذي الضجيج العالمي Bowling for Columbine الذي يهجو فيه موضوع انتشار الأسلحة المرعب في الولايات المتحدة انطلاقاً من فاجعة ليسيه كولومباين عام 1999 التي قَتَل فيها مراهقان ثلاثة عشر تلميذاً من رفاقهما.