أوراق خريفية.. «أبو كفاح»

لا يوجد شخص يرتاح إليه (أبو عبدو) ويفضفض همومه أمامه أكثر من (أبي كفاح). فهو مناضل عريق عرفته سجون الوحدة السورية المصرية مذ كان يافعاً... واستدعته فروع الأمن مراراً في العقود الأخيرة. ومع ذلك لم تبرح دمه سوسة الاهتمام بالصغيرة والكبيرة في هذا الوطن، وخاصة السياسية منها.

وأبو عبدو يلتقي معه مرة على الأقل شهرياً. يحمل إليه رزمة من التساؤلات والاستيضاحات ويفردها أمامه الواحدة تلو الأخرى، ويحشو مخيلته بالأجوبة الدسمة، ويكرّ عائداً إلى بيته وقد امتلأت روحه رضىً وتفاؤلاً. قال في نفسه: سوف أزور الأستاذ أبا كفاح وأضرب عصفورين بحجر؛ أبارك له بالمنصب الجديد الذي استلمه حديثاً (مستشار مدير عام شركة النبيذ الوطني) بعد أن حنّت عليه الحكومة وتناست تاريخه وأكرمته. وبنفس الوقت أدردش معه حول قضايا الساعة...

عندما تطلّع إليه أبو كفاح، وبحكم خبرته وفراسته في قراءة ما تخبئه الوجوه، أسرع في استنطاقه مسهلاً عليه الولوج في المواضيع التي جاء من أجلها:

■ أراك مبسوطاً يا أبا عبدو! ألهذه الدرجة كان تحرير الأسرى واسترجاع جثامين الشهداء... له كل هذا الوقع عليك؟

●● يا أستاذ! أنا مبسوط فعلاً لكنني في الحقيقة أكاد أتمزق غيظاً، تصور أنني لم أكن أعلم أنه لدينا أسرى لدى «إسرائيل»!! أمعقول هذا؟! والأنكى من ذلك لم يكن في عداد المستقبلين في مطار بيروت أيّ مسؤول سوري؟!! ولم يجرِ التلفزيون السوري أية مقابلة مع أيّ أسير محرر؟!!! وكذلك الأمر كافة وسائل الإعلام المحلية، وحتى الجبهوية منها..؟!!!! 

■ على رسْلك يا أبا عبدو! السياسة فن التعامل مع الممكن، لا تنسى التهديدات الأمريكية لسورية وتخاذل الأنظمة العربية، وغياب الحلفاء الحقيقيين لبلدنا على الصعيد الدولي.. إن استفزاز الوحش الإمبريالي إجراء يفتقر للحكمة. ثم هل نسيت أن أهم الداعمين لحزب الله هو سورية؟ وباعتراف الحزب نفسه الذي صرح بأكثر من مناسبة بأنه لولا الدعم السوري لما تحرر الجنوب اللبناني ولما عاد الأسرى...

●● طيب، لبنان! هذا البلد الصغير يستقبل الأسرى ويقيم لهم المهرجانات و الندوات والاحتفالات والأعراس... وتتسابق المحطات الإعلامية فيه، المرئية والمقروءة والمسموعة... لرصد هذا الحدث... كل ذلك، ألا يُعدّ استفزازاً للوحش الإمبريالي؟

■ صحيح، ولكن لا تنسى أن كل ما ذكرته تم بمباركة سورية إن لم نقل بتحفيز وتشجيع منها..

●● (أحس بنبرة جديدة في خطاب أبي كفاح لم يألفها به سابقاً، وقرر أن يرمي كل ما لديه من سهام في وجه محدّثه دفعة واحدة) طيب أستاذ أبو كفاح! علمنا أن قيادة حزب البعث في سورية وزعت استبياناً إلى أعضائه لأخذ رأيهم في شعارات «الوحدة والحرية والاشتراكية» ألم يكن من الأفضل لو تم نشر ذلك على الملأ وأمام جميع القوى السياسية في البلاد؟

■ هو حزب طليعي قائد للدولة والمجتمع بموجب الدستور كما تعلم... ومن حقه أن يستطلع آراء أعضائه أولاً..

●● طيب، هل من المعقول أن تكون اتفاقية الشراكة الأوربية طيّ الكتمان أمام حتى المهتمين بالشأن الاقتصادي؟!

■ (متبرما) لم تنتهِ المفاوضات بعد. وما زالت هناك العديد من القضايا الشائكة والعالقة فيما بيننا..

●● طيب، ما هو مبرر صمت وسائل إعلامنا حيال إطلاق سراح أكثر من مئة معتقل سياسي؟ ولماذا لا تفرج السلطات عما تبقّى من معتقلين سياسيين؟ ولماذا لا ترفع الأحكام العرفية عن رقاب العباد؟ ولماذا لا تستعجل بتقنين الحياة الحزبية في البلاد؟ ولماذا تم رفع أسعار عشرات المواد؟ ولماذا..

■ هوبْ هوبْ هوبْ.. طوّل بالك يا زلمه! وهل من الممكن حمل عشر بطيخات بيد واحدة! إن سياسة التدرج المتبعة سوف تؤتي ثمارها لا ريب في ذلك. ولكن الأمر يحتاج إلى صبر وأناة وعدم تسرّع.. أما بشأن تعديل بعض أسعار المواد، فالحكومات السابقة كانت تزيد الرواتب أولا، وفي اليوم التالي ترفع الأسعار، فكانت الاحتجاجات على كل ذي شفة ولسان...! الآن سنعكس الآية، لنرى ردود أفعال المواطن الذي لا يعجبه عجب.. 

●● (وقد بلغ سيل التوتر الزبى) أبو كفاح! جيوش الإحباط بدأت تزحف باتجاهي وتكاد تصرعني..

■ (كوّر قبضته ودقّ بها على الطاولة) هذا ما تريده بالضبط أمريكا وإسرائيل! إياك ثم إياك أن تستقبل الإحباط بأيدي مرحبة! إنك بذلك تقدّم خدمة جليلة للاستعمار! يا أبو عبدو! يا رفيق! يا حبيب! كبّر عقلك شوي...! (ونهض من خلف مكتبه محاولاً تغيير مجرى الحوار كليا) بالمناسبة نحن عاتبون عليك، هل يعقل أنه لا يحلو لك التعامل بالإنترنيت، إلا بزيارة المواقع التي نحجبها حرصاً منا على أمن الوطن والمواطن... ممّ تشكو المواقع الصديقة؟! آه ممّ تشكو؟ إنها تسلّي كثيرا، فيها النكات والدردشات والتسوق.. وفضائح الفنانين...

●● (رازه جيداً وتمعّن طويلاً بتقاسيم وجهه الجديدة عليه كل الجدة وأجابه وهو يداري انفعالاً عظيما): اعذرني أبا كفاح! لا أدري ماذا أقول لك..! (زافراً بحرقة) في الواقع أراك تغيرت كثيراً، لم أعهدك بهذه الروح الانهزامية أبداً... وكأنني أتحدث مع شخص آخر لا يمتّ بصلة إلى أبي كفاح! إنك تتحدث بلسان الحكومة تماماً يا رجل!!!

■ (برصانة وهدوء) الموضوعية والتعقل والابتعاد عن التطرف... سمات أساسية في شخصية الإنسان الحضاري يا أبو عبدو...

●● هل أفهم من هذا أن المنصب الذي تبوأته، يفرض عليك هذا التراجع عن مواقفك السابقة!

■ لا لا يا أبو عبدو... أرجو ألا يذهب تفكيرك إلى البعيد... ثم لم تنتبه إلى نفسك، هل تعلم أنك حتى الآن لم تبارك لي بالمنصب الجديد...

●● يبدو أنني لست موضوعياً ولا متعقلاً، وأقترب كثيراً من التطرف... ولهذا لن ألقي عليك تحية المباركة ولا حتى الوداع..

وقام أبو عبدو دون أن يرشف من القهوة أية رشفة. وقرر في نفسه البحث عن شخص آخر، وليس بالضرورة أن يكون قد خاض غمار المعتقلات والسجون والمنافي... وسمى أبناءه برموز الكفاح والنضال والثورة...

■ ضيا اسكندر

 

  عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.