عبد الرحمن منيف لمن تركت الصحراء

في صباح 24/1/2004، انطفأت الحياة في جسد وتركت إرثاً أدبياً كبيراً إسمه عبد الرحمن منيف... عن واحد وسبعين عاماً إثر نوبة قلبية.  ودعت دمشق منيف الذي قضى فيها آخر سني حياته لتحتضن أنفاسه الأخيرة... 

ولد عبد الرحمن منيف في عام 1933 في عمّان، لأبٍ من نجد وأم عراقية. أنهى دراسته الثانوية في العاصمة الأردنية، ثم التحق بكلية الحقوق في بغداد عام 1952. وبعد عامين من انتقاله إلى العراق، طرد منيف منها في عام، 1955 مع عدد كبير من الطلاب العرب، بعد توقيع (حلف بغداد)، ليواصلَ دراسته في جامعة القاهرة، تابع عبد الرحمن منيف دراسته العليا منذ عام 1958 في جامعة بلغراد، وحصل منها في عام 1961 على درجة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية، وفي اختصاص اقتصاديات النفط, وعمل بعدها في مجال النفط بسورية في عام 1973، انتقل منيف ليقيم في بيروت حيث عمل في الصحافة اللبنانية، وبدأ الكتابة الروائية بعمله الشهير (الأشجار واغتيال مرزوق) في عام، 1973 أقام في العراق، وتولى تحرير مجلة (النفط والتنمية) حتى عام 1981حيث غادر في العام نفسه العراق إلى فرنسا متفرغاً للكتابة الروائية. وفي عام 1986، عاد منيف مرة أخرى إلى دمشق، .. وأقام فيها إلى أن وافته المنية.

صدر لعبد الرحمن منيف عدد كبير من الأعمال الأدبية والفكرية والدراسات، واستطاع أن يؤسس لنفسه فضاءه الخاص، أن يخرج من مشغله وتجربته بلغته الخاصة بعيداً عن االصيحات والموضات الأدبية الكثيرة التي تعاقبت خلال الحقبات التي عاصرها، واستطاعت شخصياته التي اقتطعها من رحم الواقع أن تؤسس للكثير من القادم في عالم الأدب، وأن تؤثر في محيطها لا أن تكون تابعة لكل ما هو قادم من الغرب. استطاع أن يستنبت من الصحراء روايات عظيمة ستبقى دائماً لا إرثاً وتأريخاً لبدوي يسعى وراء واحات الحرية والثقافة فقط ، بل إرثاً وتأريخاًَ لأجيال كثيرة قادمة.

تعد خماسية مدن الملح من أهم أعمال عبد الرحمن منيف: (التيه) (1984)، (الأخدود) (1985)، (تقاسيم الليل والنهار) (1989)، (المنبت) (1989)، (بادية الظلمات) (1989)، والتي جاءت كي تكسر زجاج نوافذ كانت موصدة أمام فن الرواية العربية، لتنال جائزة لجنة التحكيم في العام في مؤتمر الإبداع الروائي التي ترأسها في حينها الأديب والناقد الراحل إحسان عباس في (القاهرة) وقدمت على أنها تعيد قراءة التاريخ بمفهوم إنساني بعيداً عن تاريخ المؤسسات الرسمية وإدانة لها. 

إلاّ أن الرأي النقدي في أهمية خماسية مدن الملح قد يجحف في حق أعمال منيف الأخرى والتي استطاعت أن تحقق فتوحات مبكرة على أكثر من صعيد في عالم الرواية العربية، ومن الأعمال التي أثرى بها منيف المكتبة العربية كانت أرض السواد. الرواية عمل استطاع من خلاله الدخول إلى نسيج الوضع القمعي في العراق بتأريخ للعراق كتبه من وجهة نظر فكرية وأدبية تحمل خصوصية كبيرة. وربما تكمن أهمية منيف روائياً بأننا لا نستطيع أن نتوقف عند أهمية عمل بعينه فسوف نجد نفسنا نغوض تدريجياً لنتذكر أعماله في كافة المجالات كصورة فسيفسائية كبيرة تتكامل لينظر إليها من بعد ويكتشف مشروع بحث متكامل قضى فيه منيف ترحاله، فبعد أرض السواد تأتي روايتا (شرق المتوسط، وشرق المتوسط مرة أخرى) (1991) روايتان أحدثتا ضجة كبرى بين أوساط القراء العرب أثناء صدورهما لملامستها بشكل مبكر موضوع التعسف السياسى كما في رواياته (الاشجار واغتيال مرزوق) (1973) و(حين تركنا الجسر) (1975) و(وقصة حب مجوسية) (1974). لنتوقف مع جبرا ومنيف في عالم - بلا خرائط (1982) - لنقرأ رسماً مختلفاً ورؤية جديدة لمدينة تحمل خصوصيتها لكليهما ((عمان)). لتتكامل مع أعماله الفكرية والنقدية والدراسات التي بقي يغني بها القارئ ومنها (الديمقراطية أولاً... الدمقراطية دائماً). وليس (1979)، (النهايات) (1977)، (سباق المسافات الطويلة) (1979) و(الآن هنا) أو (شرق المتوسط مرة أخرى) (1991) (لوعة الغياب) (1989)، (أرض السواد) (1999). كما صدرت لمنيف مؤلفات في فن الرواية، ومؤلفات أخرى في الاقتصاد والسياسة، وأصدرت دار «ديدريشس» في ميونيخ الترجمة الألمانية لمدن الملح وهي رابع رواية تترجم له إلى اللغة الألمانية بعد «شرق» المتوسط، وسيرة مدينة، والنهايات التى قامت دار لينوس السويسرية بترجمتها الى الالمانية كما حاز على جائزة سلطان العويس الثقافية للرواية عام 1989 وعلى جائزة القاهرة للإبداع الروائي التي منحت للمرّة الأولى عام 1998.

 

رحل عبد الرحمن منيف، لكن فكره وأعماله ستبقى إرثاً لأجيال كثيرة.