دردشات فيروز

في مباراة عن أجمل بلدان العالم، نهض العم بشير بقامته الطويلة وطاقيته اللباد العالية، وشرواله الجبلي الواسع، وحزامه العريض بألوانه الزاهية، وقال:

أنا عربي من بلاد الشام الواسعة الأرجاء، التي تتمتع بأرض معطاء وخيرات وفيرة وجمال طبيعة خلاب. لكنني سأقصر كلامي في الحديث عن ضيعتنا كنموذج منها، إنها تتمتع بميزات فريدة تفتقر إليها البلدان الأخرى، قمم جبالها الشماء تخترق الغيوم، تجاور القمر وتناجي النجوم، وهي تتوشح بجبة زاهية الاخضرار، وتتعمم عمامة ناصعة البياض، وتشرف، بل تحتضن سهول قمح واسعة الأمداء، التي تتماوج بالخضرة، وتستحم بأشعة شمس لطيفة، وديانها عميقة الأغوار، تتهادى منها نسائم عليلة، محملة برائحة الندى الزكية فتنعش الفؤاد.

سهولها وجبالها تدغدغها أمواج البحر الهادئة، التي تتلاحق تداعب بعضها دون أن تكل  أو تمل.

بساتينها محملة بجميع أنواع الفواكه التي تتوهج كمصابيح مضيئة تجذب لهفة الناظر وبين أغصانها المتشابكة تزقزق العصافير وتتقافز، وتغرد البلابل والعنادل، وتشدو الشحارير، ويهدل اليمام المعشش في أعالي الشجر بأغاني الصباح.

بيوتها الجبلية تختبئ بين الأشجار وتغوص في الخضرة، وفي كل دار منها، خميلة ورد وأزاهير، يرصع الندى تويجات أوراقها بألوانها الخلابة الزاهية، التي تفعم الجو بعبق أريجها المنعش الفواح.

إن ضيعتنا تتنعم بسحر جمال الجبال، وهدوء ووداعة السهول، وفتنة البحر وخيراته في آن معاًَ، إنها قطعة من الجنة.

تتحدث الأسطورة التي يتناقلها سكان ضيعتنا، بأن الخالق الكريم عندما وزع الأرض على البشر، كان ممثل بلاد الشام غائباً وعندما حضر كان التوزيع قد انتهى. فتضرع إلى رب العباد بحرقة وألم، ألا يحرم قومه من الأرض فرأف بحاله وانتزع قطعة من الجنة وأعطاه إياها: «هنا أرض مقدسة. خذوها وتمتعوا بجمالها وتنعموا بخيراتها الوفيرة، وصونوها كحدقة عيونكم».

كثيرون يدعون أن هذه الأسطورة تخص بلادهم، لكنهم لايملكون الأدلة والبراهين الحية التي نملكها. ومايؤكد ذلك، أن إحدى الملائكة من جوقة المسبحين لله، كانت قد غفت في خميلة ورد تظللها شجرة أرز ضخمة، انتقلت معها إلى بلاد الشام وكانت من نصيب قريتنا. وعاشت فيها، والتحمت بترابها، وامتزجت بمائها وهواءها، وأصبحت جزءاً لايتجزأ منها، وباتت هي والشجرة التي كانت تظللها، رمزين خالدين لضيعتنا، وهي حية حتى الآن واسمها فيروز.

إن الفنانة العربية الكبيرة فيروز، هي هبة عظيمة للعرب قلما يجود الدهر بمثلها. فهي منذ أكثر من نصف قرن، تغرد لجمال الطبيعة والحياة والمحبة. تشدو للفرح والسعادة، وتنشر النور و الأمل والسلام والتفاؤل بين البشر. غنت للعروبة وأمجادها، لنضال الشعب العربي الفلسطيني العادل ضد الصهاينة المحتلين الأشرار، وزرعت في قلوب المهجرين الجريحة أمل العودة إلى ديارهم السليبة.

لقد مجدت أوطان و عواصم وبلدان عديدة، لكنها ترفعت بإباء وشمم ـ رغم المغريات الكبيرة ـ أن تلوث اسمها الناصع ومكانتها الفنية المرموقة، بتمجيد أشخاص مهما علت مراتبهم ومناصبهم.

إن صوتها الساحر الذي تتأرجح طبقاته، بين النعومة المخملية وهدير الرعود، اقتحم لاحدود البلدان العربية وحسب، بل حدود معظم بلدان العالم أيضاً، وأسر النفوس، وعزف على أوتار القلوب، وحرك العواطف بالأشواق والحنين، وحلق بالمشاعر نشوى بالأمل والمحبة والتفاؤل، إلى الأعالي تسبح بين النجوم فاستحوذت فيروز بذلك على حب وإعجاب وإجلال الناس في كل مكان، واستحقت أن تتربع على عرش فن الغناء العربي الراقي عشرات السنين.

إن طلب العديد من المثقفين العرب، من الحكومة اللبنانية، أن تعتبر ميلاد فيروز في 21 تشرين الثاني عيداً وطنياً، هو مطلب مشروع يلقى الدعم والتأييد من جميع الشعوب العربية، ومتذوقي وأساتذة الموسيقا والغناء في العالم. لأنها تستحق هذا التكريم عن جدارة بامتياز، ووفاءاً متواضعاً تجاه ماحققته المدرسة الرحبانية، من قيم جمالية في فن الغناء والموسيقا العربية. وفي نفس الوقت، يشكل هذا التكريم لغة حضارية على نطاق العالم.

 

■ عبدي يوسف عابد