الثقافة والطائرات
أصبحت الثقافة الشعبية أكثر السلع الأمريكية تصديرا بعد الطائرات. الأفلام الأمريكية والمسلسلات، وأقراص الموسيقى المدمجة تشكل 40 % من السوق العالمية، وربع سوق التلفزيون العالمي. ويكفي أن تعلم أن 80% من تذاكر دور العرض في العالم تعود لأمريكا، وبذلك أمست هذه الثقافة مصدرا هاما من مصادر الدخل القومي الأمريكي.
هذه الأرباح الهائلة، تجعل أمريكا تصر على اعتبار أن الثقافة سلعة وتتشبث بعولمتها. وكانت منظمة اليونسكو قد أعلنت ما يسمى بالعقد الثقافي (1988- 1997) عكفت خلاله على دراسة قضية «التنوع والخصوصية الثقافية». وفي اجتماع المنظمة عام 2001 أعادت اليونسكو تأكيدها على أن التنوع الثقافي يشكل أحد أهم مصادر التنمية، كما رفضت رفضا قاطعا نظرية صدام الحضارات والثقافات.
وعام 2002 ثبتت المنظمة تصورها ذلك بموافقة أغلبية الدول. وفي 2003 أصدرت المنظمة تقريرا ضخما بعنوان «تنوعنا الخلاق في الثقافة والتنمية» ليكون بمثابة إعلان عالمي ملزم للدول الأعضاء كلها، وملزم - وهو الأهم والأخطر - للمنظمة العالمية للتجارة بحيث تقوم بتعديل قوانينها التي تتعامل مع الثقافة باعتبارها سلعة، بحيث لا تتعارض تلك القوانين مع الإعلان العالمي والمعاهدة الثقافية. وفي 20 أكتوبر الحالي تم التصديق على المعاهدة التي عكفت اليونسكو على إعدادها سنوات طويلة، ولم يرفض المعاهدة سوى أمريكا وإسرائيل !.
وتشير الاتفاقية إلي: «الاعتراف بخصوصية السلع والخدمات الثقافية»، و: «حماية أشكال التعبير الوطني»، «إقرار حق الدول في انتهاج السياسات الثقافية التي تحددها لنفسها»، وأيضا: «حماية المنتج الثقافي»، وكذلك: «أن الأنشطة والسلع الثقافية تتسم بطبيعة مزدوجة اقتصادية وثقافية». وفي مادتها الأولى تشير الاتفاقية إلي: «حق الدول السيادي في تبني وتطبيق السياسات والإجراءات التي تراها مناسبة لحماية التنوع الثقافي والارتقاء به على أراضيها»، أما المادة رقم 20 التي أثارت جدلا واسعا فتنص على: «أن للاتفاقية القيمة ذاتها التي لاتفاقية منظمة التجارة العالمية».
وباختصار فإن اتفاقية اليونسكو تحرر الثقافة من النظرة الأمريكية إليها بصفتها مجرد سلعة. وقد تمكنت اليونسكو من القيام بتلك الخطوة نظرا لأن أمريكا لا تتمتع بحق النقض في مؤسسات الأمم المتحدة (خلافا لمجلس الأمن) ومن ثم فإن موقفها ليس حاسما.
أما أمريكا التي انسحبت من منظمة اليونسكو عام 84 عهد إدارة الرئيس ريجان وعادت إليها فقط عام 2003بعد قطيعة استمرت 19 عاما، فقد رأت في الاتفاقية خطرا على الهيمنة الثقافية الأمريكية، وصرحت كوندوليزا رايس بأنه من الممكن إساءة استخدام بنود تلك الاتفاقية لتقييد حرية التجارة، وأعربت صراحة عن خشيتها من أن تضر الاتفاقية بصناعة السينما والموسيقى الأمريكية. وبرر مسؤول أمريكي آخر رفض الاتفاقية بقوله إن بها من البنود ما يمكن استغلاله لوضع الحواجز التجارية باسم «التنوع الثقافي»، وأن ذلك سيسبب أضرارا بالغة بحرية التجارة.
علما بأن الاتحاد الأوروبي كان قد رفض من قبل إخضاع المنتجات الثقافية لاتفاقيات منظمة التجارة العالمية، على أساس أن تلك المنتجات ذات طابع إنساني لا يمكن التعامل معها وفق اعتبارات الربح والخسارة التي تحكم العلاقات التجارية.
إن الرفض الأمريكي – الإسرائيلي للاتفاقية يوضح العداء الأمريكي للتنوع الثقافي، ومعاداة مختلف أشكال التعبير الثقافي الأخرى. ويذكر ذلك بانسحاب أمريكا من مؤتمر ديربان بجنوب أفريقيا لإصرار المؤتمر على إدانة الصهيونية، ورفضها تجديد عضويتها في لجنة حقوق الإنسان عام 2001، وانسحابها من اليونسكو عام 1984. ولا تشكل الهيمنة الاستعمارية الأمريكية خطرا على الثقافة فحسب، بل وعلى البيئة أيضا فقد سبق لأمريكا أن رفضت توقيع اتفاق «كيوتو» عام 1997 الذي يهدف للحد من الغازات التي تتسبب في رفع درجة حرارة الأرض، رغم أن أمريكا هي أكبر مصدر للتلوث في العالم، كما رفضت أمريكا نتائج مؤتمر «قمة الأرض» عام 2002، وأعلنت أنها لا تعترف بتحديد أهداف ملزمة بمكافحة الفقر والتلوث في العالم. إن أمريكا لا تعترف إلا بالطائرات التي تشن بها حروبها على العراق وأفغانستان وتهدد بها سورية وإيران وكوريا وغيرها، ولا تعترف بثقافة إلا في حدود أنها سلعة، ولا تعترف بأهمية حماية البيئة والمياه من التلوث، فهي لا تعترف بشيء سوى صناعة الطائرات والقنابل، والمسلسلات والأفلام المشبعة بالعنف والجريمة، وهي في الحالتين تقاتل دفاعا عن حقيقة مؤلمة وهي أن عشرين بالمئة من سكان العالم يحصلون على ثمانين بالمئة من الدخل العالمي.
في وقت ما، وقف العالم كله في جبهة واحدة يتصدى للنازية الألمانية باعتبارها خطرا مشتركا على العالم أجمع، وقد أصبحت أمريكا تشكل خطرا مماثلا.
■ أحمد الخميسي. كاتب مصري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.