المعهد العالي للفنون المسرحية: لا تطلقوا رصاصة الرحمة!
شكل المعهد العالي للفنون المسرحية عبر تاريخه رافداً للعمل الثقافي والفني في سورية، فقد أغنى الثقافة السورية بخبرات وتجارب مسرحية استطاعت أن تشكل بداية لملامح هوية مسرحية سورية، إضافة للتطور الملحوظ الذي شهدته الدراما السورية في السنوات الأخيرة، وكما ورد في النظام الداخلي للمعهد «أحدث المعهد العالي للفنون المسرحية بموجب المرسوم التشريعي رقم /8/ تاريخ 28/4/1977 بهدف تخريج الاختصاصيين في مختلف فروع الفنون المسرحية لتحقيق نهضة مسرحية عربية أصيلة».
ولا يخفى على المتابع الحالة التي وصل إليها المعهد، وكذلك انعكاساتها الجلية على الحركة المسرحية في سورية بالعموم، فبعد أن كان المعهد حاضناً لمواهب وقامات سورية كبيرة، استطاعت أن تكتسب عبر تاريخها احتراماً على مستوى الساحة العربية بل والعالمية في بعض الأحيان، فالمكان الذي شكل هماً كبيراً لعمالقة تركوا بصمات جلية على المشهد الثقافي السوري: فواز الساجر، سعد الله ونوس، ممدوح عدوان، نبيل الحفار، غسان مسعود.. صار اليوم عبئاً على المسرحيين السوريين، وتحول من قبلة فنية تشكل مركز إغراء لكل فنان سوري يمتلك مشروعاً حقيقياً إلى مكان يعتبر مجرد معْلم يضفي مسحة من الجمال على المدينة.
المعهد العالي كمعظم المؤسسات الثقافية في سورية سيطرت عليه عمليتا الارتجال والفردية في الإدارة الثقافية، أي غياب العقلية المؤسساتية، مما يحتم على كل مدير للمؤسسة أن يبدأ وكأنه يؤسس من جديد، وتشترك أيضاً في ذلك مسألة الأرشفة وتوثيق التجربة التي تشكل عدواً لكل من يتسلم منصباً إدارياً.
لكن التجربة السابقة في إدارة المعهد العالي للفنون المسرحية (بإدارة د.عجاج سليم الحفيري) تضعنا في مواجهة سيل من الأسئلة، وفيض من التعجب. التجربة التي تكللت منذ بدايتها بفصل طالب لمدة عام كامل بسبب ملاسنة شفوية بسيطة بينه وبين أحد أعضاء اتحاد الطلبة، وكما أنها شهدت تحولات كارثية على مستوى الكادر التعليمي في المعهد، فازدحم المعهد بالكثيرين من عديمي الخبرة في المجال التعليمي إلى درجة أن أحدهم لم يكن مؤهلاً أكاديمياً ولا مجازاً جامعياً على أقل تقدير، كما هجر المعهد عدد من أصحاب الكفاءة والخبرة من الطاقم التدريسي المشهود لهم، إلا أن قلة من الفنانين والمدرسين الذين ترفع لهم القبعة آثرت البقاء بدافع مسؤولية شخصية وشراكة فنية وإنسانية مع هذا المكان، فأضحى القرار في فترة الحفيري ارتجالياً يتسم بالفردية في معظم الأحيان، ففي قسم النقد والدراسات المسرحية، على سبيل المثال لا الحصر، توقف قبول الطلبة في العام السابق، الأمر الذي شكل فجوة في صفوف القسم وما يترتب عنها من احتمالات تبقى عالقة في يد القدر، كما أن إدارة المعهد حاولت في العام السابق فصل القسم من رحمه الطبيعي (المعهد)، وذلك بنقل مقره إلى مشروع دمر تحت ذريعة نقص القاعات في المعهد، فماذا على الطلبة أن يفعلوا؟ هل يمكن لهم الرفض القاطع ولاسيما أن أمام أعينهم غرف الموظفين التي تفوق القاعات الدراسية عدداً ونوعاً؟؟
لكن الأمر لم يتم، ولأسباب مجهولة لايزال القرار معلقاً حتى هذه اللحظة.
الغبار وأصوات معدات البناء التي لم تكد تفارق الطلبة خلال أيام دراستهم في المعهد، بل كانت عامل استرخاء لهم في فترة امتحاناتهم النهائية، وخلال العطلة الصيفية لم يدق مسمار واحد على أحد جدران المعهد! والغريب هو أن يتم إيقاف الدوام لمدة أسبوع كامل تحت عنوان «عدم وجود قاطع كهربائي».
الأمر الأهم كان يتعلق بالمنهاج الدراسي، كإقحام مواد جديدة ونغيب أخرى، دون استشارة أي من الطاقم التدريسي الموجود في المعهد، كما وأنه جرى تحويل قاعات التدريبات الخاصة بطلبة قسم التمثيل إلى شبه مسارح صغيرة، وهذا الأمر الذي ضرب فكرة الأستوديو وأهميتها للمثل، فالأستوديو يجعل الطالب ينسجم مع كل الأماكن التي سيقدم بها خلال عروضه الفنية القادمة.
إن هذه الفترة بكل ما شهدته يجب تجاوزها وتلافي الأخطاء والبحث عن مواطن الصواب في القرارات السابقة إن وجدت، الأمر الذي يتطلب جهداً مضاعفاً ينتظر العميد الجديد للمعهد العالي للفنون المسرحية.. إن هذه الفترة شهدت استياء لا نظير له من جانب الجميع، تجلت في محاولات كثيرة لكتابة العرائض ورفعها، أو اللجوء إلى إنشاء صفحات عبر مواقع التواصل الاجتماعي منها «تحرير المعهد العالي من قبضة عجاج الحفيري»، وجمع توقيعات بالجملة، وهجوم صحفي لم تشهده أية إدارة سابقة ظل بين تكذيب وتصديق حتى النتائج الامتحانية شكك بصدقيتها، كما أن الأمر تعدى المشاكل مع الطلبة ليطال الفنانين أيضاً في خلافات تتعلق بالأجور مما دفع بعضهم إلى وصفها بالإهانات المادية والمعنوية، حتى مستثمر الكافتيريا في المعهد العالي لم يكن حظه أفضل بكثير، حيث راح الأخير يجمع تواقيع الطلبة لتقديمها إلى الجهات العليا، وذلك بسبب إغلاق الباب المؤدي إلى مصدر رزقه.
منذ زمن والمعهد بحاجة إلى كاميرات تفيد الطلبة في عملهم، إلا أن العميد الجديد (الحفيري) قد قام بضربة استباقية مفاجئاً بها الجميع، ووضع ما يفوق العشر كاميرات مثبتة على الجدران للمراقبة، ناهيك عن الأسوار الحديدية المثبتة على نوافذ القاعات.
ينبغي على الجميع العمل لإعادة الحياة للمعهد العالي، كي يعود كما كان مفخرة للعاملين في المسرح السوري، والعمل جاهداً إلى إعادة الدور الرائد الذي كانت تقوم به فرقة المعهد العالي للفنون المسرحية التي غيبت لفترات طويلة، ويتطلب ذلك أيضاً من القائمين على المسرح إعادة النظر في بعض القوانين السارية، كالنظام الداخلي للمعهد وميزانيته، واستقلالية قراره، وهنا لابد أن نذكر بما قاله المسرحي والرئيس التشيكلوسلوفاكي السابق فاسلاف هافل في الكلمة التي أعدها ليوم المسرح العالمي 1994: «إن العالم الآن يتحول إلى التعددية الثقافية، وتعدد الأقطاب، ولم يبدأ الآن في البحث عن نظام جديد وعادل، نظام يعني باحتياجات الحاضر، كل هذا يجعل العالم الحديث مكاناً درامياً بصفة خاصة. في حضارة اليوم التكنولوجية اللاإنسانية، المسرح واحد من أهم جزر المصداقية الإنسانية.. إنه فن لابد أن نحميه وننميه».