«سوق عكاظ»

●... لو عاد أي عربي إلى ما قبل الإسلام وحضر مهرجان العرب «سوق عكاظ» فإنه سيدهش لروعة ما يرى وما يحضر وما يعاين:

●... فهنا النابغة الذبياني... يتكئ على محجنه مذهولاً من بكائية رائعة «للخنساء» قائلاً لها: اذهبي فأنت أشعر النساء.. ولولا أنه سبق وقضيت «للأعشى» لقضيت لك..

●... وعلى تلة أخرى يقف المنادون قرب قدور «حاتم الطائي» يرجون «أهل الموسم» بتكريم «حاتم» شبعاً ورياً من زاده العربي أعده لأهل الموسم.

●... وهذا «خالد بن جعفر بن كلاب العامري» ينتفض على ظلم «زهير بن جذيمة العبسي» فيقتله مقابل ركلة «وجهها زهير» إلى عجوز عامرية.. وهؤلاء بنو عامر.. يعرضون في السوق: «يا أهل عكاظ: مَن جائع لنطعمه.. من خائف لنؤمنه.. من ضائع لنوصله إلى أهله.. من ظمئ لنرويه..» وياله من نداء..

● وهؤلاء سادة قريش يتنافسون في توزيع المكارم على الفقراء والشعراء والمحتاجين، كما يتنافسون في بيع الأدم والعطور والبر والبز والرماح الحظية وتمرهجر...

● وأولئك فرسان... يتناهبون حلقة السباق وسط حشدٍ من كل قبائل العرب... عنترة وعامر بن الطفيل وعروة بن الورد... وسواهم.. وذلك عاشقٌ أضناه الهوى فقطع الفيافي بحثاً عن وجهٍ حبيب.

... وذلك قس بن ساعدة على جمل أورق ينذر الناس:

«أيها الناس اسمعوا وعوا ما فات مات وما هو آت آت»...

●... وتلك قباب من السعف ترن تحتها أوتارٌ تتغنى بقصائد الهوى:

ودفعتها فتدافعت    

كتدافع الظبي الغرير

●... ذلك هو العالم الذي تحدثت عنه في مسلسل أنجزته منذ ثلاث سنوات وما يزال يدرس بين مدراء التلفزيون ومسؤوليه حتى تحوّل الأمر إلى ما فوق المهانة وإليكم نموذجاً مما يدور:

1 ـ «إن المسلسل يهاجم الفرس... وتسري الإشاعةكالنار في الهشيم..» طبعاً المسلسل لا يهاجم الفرس مع أن كسرى أنوشروان ليس أحمدي نجاد بأي حال من الأحوال.

2 ـ هل لنا مصلحة أن نقول هذا العز العربي والتجربة الفريدة في التاريخ البشري كله: كان في السعودية.. وهنا ليس لك إلا أن تضرب رأسك بالحائط حتى يسيل دماغك.. فماذا ترد على كلمة كهذه.. ولكن لا بدّ من عبور هذا الصراط فوق جهنم:

ـ إن السعودية تسمية حديثة وفظيعة للجزيرة العربية أو معظمها بدأت منذ عام 1715 وما بعد.. والأهم أن هذه البقعة الهائلة من دنيا العرب بكل ما تحمله من تاريخ وسادة عظام وعلى رأسهم «رسول الله صلى الله عليه وسلم» وصحابته وقادته وشهداء الدعوة الإسلامية العظام رضوان الله عليهم ينتمون إلى هذه الأرض.. وإن الكعبة الشريفة ومكة المكرمة والمدينة المنورة تقع في الجزيرة العربية.. فماذا نفعل أيها السادة.. والسؤال الأهم.؟.

كيف يمكن اختصار التاريخ بهذه الطريقة أو بالأحرى كيف يمكن نحر المنطق وكل منطق في الدنيا بهذه الطريقة.. وبالمناسبة إن أنور السادات مصري.. فهل نلغي مصر.؟! ونوري المالكي عراقي فهل نلغي العراق..

«والأكثرية النيابية الأمريكية في لبنان لبنانية فهل نلغي جبران وفيروز وحسن نصر الله».

والأدهى والأمر.. منطق التفكير ذاته.. فإن كان جهلاً فيا للفجيعة.. وإن كان استهتاراً فيا للهول..؟!

● لا أريد الغوص في التفاصيل ولا في الأسماء احتراماً للزمالة وتكريماً للمعرفة والعشرة.. ولكن الكأس فاضت حتى ملأت كل الأوعية بما فيها الأوعية الدموية.. وهي إما ستنفجر أو تهترئ.. ألا يحق لي ولو كلمة».

●... بعد نقاشات بدأت منذ ثلاث سنوات وهذا المسلسل يروح ويجيء.. ينحر بإشاعة من هنا وإشاعة من هناك.. وجهل مرير من هذا وتجهيل متعمد من ذاك.. انفجر الاقتراح التالي: «حولوا مسلسل عكاظ إلى المفتي»... وأشهد أن الاقتراح أسعدني لأن «سيدنا المفتي» متنور ومثقف وقد يحسم الموضوع كله بكلمة واحدة... علماً أن تاريخ العرب قبل الإسلام خارج اختصاص «سيدنا المفتي»، والحجة التي سمعتها «هل يجوز إظهار عبد المطلب ابن هاشم بن قصي على الشاشة»: يا سادة يا عباقرة يا جهابذة، إن عبد المطلب عاش في الجاهلية... واسمعوا هذه: منذ فترة طلبت مني محطة فضائية سودانية «مسلسلاً عن الرسالة النبوية المشرفة..» وأرسلوا لي قائمة من الرغبات أولها ما يلي: نرجو إبراز دور عبد المطلب وآل بيته في رعاية رسول الله (ص) صغيراً، ودور عمه أبي طالب وآل هاشم في حماية الرسول الكريم والدعوة، ولكي أريحكم فإن الممنوعين من الظهور باجتماع الأطراف كلها:

رسول الله صلوات الله عليه وزوجاته وبناته رضوان الله عليهن جميعاً.. وثمة خلاف حول ظهور صحابته.. لكن الأزهر أفتى بعدم ظهور الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم، ولا مانع من أن نسمع أصواتهم..

هذا فقط لأريحكم من تكبيد سيدنا المفتي العناء... ولم يكن أحد منهم في عكاظ. ارتحتم. ولاداعي لتفنيد مدخل الاقتراح ومخرجه... فإن كان عن جهل فيا ويلتاه.. كيف تديرون عملكم.. وإن كان عن حقيقة.. فلماذا تأخذون ضغائنكم إلى ما لا يحتمله أو يتصوره أحد.

... وبالمناسبة فإن منطق المقايضة الذي يطرحه أحدهم لا يمكن تشبيهه إلا بأخلاق السيرك ومنطق الحواة.

فهل نلعب بالأفاعي أيها السادة. والله لو قلت ما أعرف لتفصدت جباهكم عرقاً... ولكن...

● بعد هذا وذاك وما قبله وما سيليه فإني أستصرخ «ضمائركم» «انتبهوا إلى القوسين» أن تكفوا عن النقاش حول «سوق عكاظ»، وأن تلقوه في أقرب سلة مهملات قرب أقدامكم ليس رحمة بي وبالعرب.. بل بحاتم الطائي وعنترة وخالد بن جعفر الكلابي وعمرو بن كلثوم والخنساء وقس بن ساعدة وعبد الله بن عجلان وعروة بن الورد.. فإذا كنتم تريدون أن تجعلوني «عبرة لمن يعتبر.. فما علاقة هؤلاء السادة الأفاضل».

● ولكي أريحكم وتريحوني فلا بأس أن تعتبروا هذا الإشعار بمثابة استقالة من الوظيفة إذا كان ذلك بهدى خواطركم.. فليس العمل الأول لي الذي يلقى «في سلة المهملات» وللذكرى فقط أذكر العناوين التالية: ـ الشفق الأزرق ـ مسرحية أعدت وجهزت ثم قضي عليها بهاتف واحد.. بتهمة ما أنزل الله بها من سلطان.

وما أزال أذكر كلمة «أحدهم»: سأحولها إلى شفق أسود، فتوقفت في اليوم التالي فوراً وبدون نقاش.. بالمناسبة المسرحية تدور في «أوغاريت» أي منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام.

«ميسلون» مسرحية غنائية أخرى أهملت وألقيت في السلة تحت بند «التكاليف».. عام 2005.. يبدو أن ميسلون لا تستحق أن يصرف عليها أما سواها فيستحق.

● «شرف قاطع طريق» مسلسل عن رواية للأديب الكبير حنا مينة أهمل حتى الحديث عنه.

●... «قمر أيلول» سباعية تتحدث عن البطالة في الريف بأسلوب جديد وشفاف طرحت عليّ المقايضة التالية: اختر أحد العملين «قمر أيلول» أو «سوق عكاظ»، ولا أدري ما علاقة الحب والبطالة في الريف... بتاريخ العرب اللغوي والثقافي والتجاري.. ولا أريد أن أشرح الأسباب.

●.. إلى هنا أنتهي... من العرض.. ويبقى الطلب.؟..

هل لديكم مسدس محشو برصاصة واحدة أضعها في صدغي وأرتاح من سماع هذه الآراء وتلك المقايضات وكل تلك الأنماط من الإهانات التي تجاوزت قدرتي على بلعها أو العيش معها.. أقول هذا مكرهاً.. لإنني لو أبقيتها فالجلطة ستدهمني كقذيفة صائبة..

... ولأنني أب لطفلتين صغيرتين ما تزالان بحاجتي: أرجوكم أوقفوا حواراتكم.. ولا تنسوا سلة المهملات...

وإن نسيتم اسمي... فإن هذه الجائزة الكبرى التي لن أنساها لكم..

أدام الله أفضالكم وبيوتكم وبوناتكم وسياراتكم... و... لو أكملت لاضطررنا للوقوف أمام القضاء... وليس من طبعي الأذية.

■ م عبد الكريم