تراث عن المجون والمُجَّان
مع نهايات العصر الأموي وبداية العصر العباسي انتشرت في الكثير من الحواضر الإسلامية ظاهرة جديدة أثارت الكثير من التساؤلات وردود الأفعال، وهي تفشي نمط حياة اللهو والمجون بين العديد من الشباب الذين تخلوا عن المظاهر السلوكية التي اعتادها المجتمع الإسلامي في العصور الماضية، واستهتروا بالكثير من العادات والتقاليد السائدة، وكان يمكن لهذه الظاهرة أن تمر دون أن تترك تلك الأصداء الواسعة لو أن تلك الفئة من المجان لم تمتلك أدباءها ومنظِّريها وفلاسفتها، الذين أعطوا لتلك الظاهرة طابعاً خاصاً جديراً بالدراسة.
لم يكن المجان في الواقع مجرد مجموعة من الشبان العابثين المنفصلين عن واقع مجتمعاتهم، فيكفينا أن نعرف بأنه من بين أهم أعلامهم برزت أسماء عدد من عمالقة التراث، كالشاعرين بشار بن برد وأبو نواس، والمفكر والأديب الكبير ابن المقفع الذي كان من المجان المشهورين في فترة من فترات حياته، وقد كان هؤلاء الأعلام يتمتعون بثقافة موسوعية شملت معظم علوم عصرهم واشتهروا بسعة أفقهم وغزارة انتاجهم الأدبي والفكري، مما ينفي عنهم صفة الاستهتار العبثي المجرد من أية غاية أو خلفية فكرية، ولذلك فقد درج المؤرخون منذ القديم على ربط تلك الظاهرة بظاهرتين أخريين كان لهما صداهما في تلك الفترة، أي ظاهرتي الزندقة والشعوبية.
ولا يمكننا في هذا الحيز أن نعود إلى كلٍ من تلك الشخصيات لنناقش توجهاتها الدينية والقومية، بل سنحاول أن نربط ظاهرة المجان بإطار أكثر اتساعاً وعمومية من تلك الأطر الضيقة التي تحشر ضمنها عادةً القضايا التراثية، فقد مثَّل المجان باستهتارهم بالمعايير الأخلاقية القديمة وبتمردهم على المؤسسات الاجتماعية والدينية التقليدية وباغراقهم بنمط حياة حسي مفرط في لذائذيته ثورةً فكرية واجتماعية على قيم المجتمع القبلي ماقبل المدني وبنياته التقليدية، ذلك المجتمع الذي بدأ يتدهور تدريجيا مع تطور الحياة المدنية وتوطد الإمبراطورية العربية الإسلامية في مراكزها الجديدة مما وفر إمكانية التمازج والتلاقح الحضاري بين مختلف الشعوب التي انضوت تحت لواء تلك الإمبراطورية، هذا فضلاً عن نشوء طبقات اجتماعية جديدة ارتبطت بحياة المجتمع المدني التي انتعشت مع الازدهار الاقتصادي الكبير الذي عرفه ذلك العصر، والذي ترافق مع تطور الحركة التجارية التي ساعدها انتشار الأمن والسلام في ربوع الدولة، كل تلك العوامل كانت تحمل بين طياتها بذور ثورة اجتماعية كبرى كانت قادرة على الاطاحة بالكثير من أشكال ومؤسسات المجتمع القديم ولكنها اصطدمت بقيمه المترسخة والمحاطة بهالة من القداسة.
وهكذا فقد كان أعلام المجان مجموعةً من المثقفين الكبار الذين اصطدموا مع البنيات الاجتماعية القديمة والمتحللة، فقرروا التحرر من قيودها الأخلاقية والفكرية، وزعزعة استقرارها وركودها، ولذلك يمكننا أن نعتبر أولئك المجان نمطاً من المثقفين الحداثيين بالنسبة لشروط عصرهم، ولا يحتاج المطَّلع على شعر بشار و أبي نواس أو نثر ابن المقفع إلى الكثير من الجهد ليدرك مدى حضور الهم الحداثي حسب شروط ذلك العصر في أدبياتهم، ولعل سخرية أبي نواس من عادة الوقوف على الأطلال في مقدمة القصيدة العربية التقليدية أحد أهم الامثلة على الطموح التجديدي لهذه الفئة من المثقفين:
«دع الأطلال تسقيها الجنوب
وتبكي عهد جدتها الخطوب
وخل لراكب الوجناء أرضاً
تحث بها النجيبة والنجيب»
وهكذا كانت السخرية من تلك العادة الأدبية مترافقةً مع السخرية من أطلال المجتمع القديم ودعوة إلى استشراف أفق جديد كانت معالمه قد بدات بالتوضح.
لم تستطع ظاهرة المجان أن تغير كثيراً من البنية الفكرية والأخلاقية للمجتمع العربي الإسلامي، إلا أنها تركت أثراً لم يمحَ في الحياة الاجتماعية لذلك الزمن مادامت عصور الازدهار الحضاري مستمرة، قبل أن يأتي زمن الردة الاجتماعية والفكرية الكبرى التي رمَّمت كل الأطلال وأعادت الاعتبار لها.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.