بين قوسين: شاعر البلاط المعاصر جداً..
الحصول على لقب «شاعر البلاط» تاريخياً، لم يكن أمراً سهلاً، بل كان «تشريفاً» من الحاكم العربي متنافساً عليه بين كوكبة من النظراء المتقاربين بالموهبة والذكاء وسعة المعرفة والكاريزما العامة، ومشروطاً أساساً بمدى الجدارة والنجاح بتأدية الدور الوظيفي، السياسي والإعلامي والترفيهي، المطلوب القيام به في خدمة صاحب الأمر، سواءً كان خليفة أو والياً أو ملكاً أو سلطاناً...، ضمن تقاسم وظيفي دقيق مع آخرين يعملون في الإطار ذاته.. وبالتالي فإن «شاعر البلاط» بهذا المعنى، لا يقل أهمية عن «داعية البلاط»، وقائد الجيش، والمستشار، والوزير الأول...
بعد انهيار الخلافة العباسية في المشرق، والخلافة الأموية ومن ثم دول الطوائف في الأندلس والمغرب، فقد شاعر البلاط بالتدريج وظيفته ومكانته، فالحاكم لم يعد عربياً، وهو على الغالب لا يفهم من لغة قريش إلا ما يلزمه لإصدار الأوامر والمراسيم، ومن ثم «الفرمانات»، فكيف الشعر؟ وهكذا، ونتيجة جملة ظروف موضوعية تاريخية أخرى، ساد ما يُعرف أدبياً بـ«عصر الانحطاط» الذي استمر عدة قرون، وامتد حتى ما يُطلق عليه اسم «عصر النهضة» أو «اليقظة العربية»، حيث انتعش الشعر، فعاد «شاعر البلاط» للظهور مجدداً في بعض القصور ليؤدي دوره الكلاسيكي نفسه، وإن بدا هذه المرة محملاً ببعض الأفكار الإصلاحية لأسباب فرضتها طبيعة التغيرات الاجتماعية..
ومع ظهور الدول السايكسبيكوية «الوطنية المستقلة»، ووصول حكام محليين مطلقي الصلاحيات في كل دولة إلى سدة الحكم بعد فترات فوضى، وتزامن كل ذلك مع تطور وسائل الدعاية والسيطرة الحديثة، حدث تغير جذري في مفهوم «شاعر البلاط»، فقد حافظ هذا الشاعر على وجوده شكلاً، ولكن خسره مضموناً، إذ لم يعد ركناً من أركان السلطة له دور محدد يؤديه للمحافظة على استقرارها ومقارعة ومناظرة خصومها، بل اقتصر عمله «التراثي» على الإفراط في مديح الحاكم، وتعداد إنجازاته التي لم ولن يحققها يوماً، ولم يعد مطلوباً منه أن يكون فائق الموهبة واسع الاطلاع، رائداً ومجدداً كسلفه القديم، بل لا ضير أن يراه الجميع، بمن في ذلك الحاكم نفسه، مسخاً أو مهرّجاً مهمته الترفيه والتسلية.
اللافت اليوم، أن «شاعر البلاط» قد عاد إلى الظهور بقوة ليخدم حكام النظام العالمي الجديد المولعين بـ«الاعتدال»، ولكن دون شِعر هذه المرة، فـ«شاعر البلاط» المعاصر جداً، تجلى على صورة نجم مسرحي وسينمائي جمع المستحيلين: محبة الناس وثقة البلاط، وقد حسب في لحظة مخادعة بعد أن أغواه الحاكم وحلفاؤه وأعمته العظمة، أنه سيبقى الأكثر جذباً والأبعد تأثيراً حتى وإن انزلق إلى الهاوية، وحاول أن يسحب محبيه معه إليها، ولم ينتبه لحقيقة كان يدركها دائماً جميع شعراء البلاط السابقين ولا يعبثون بها أبداً لترسخها في الضمير العام، وهي أن العدو عدوٌ، وكل من ينحاز إليه ويقف في صفه يصبح خائناً.. حتى لو كان اسمه عادل إمام!!