محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

الرمز التراثي... في قصيدة محمود درويش

يصعب علينا أن نحدد السبب الذي جعل للتراث ذلك الثقل الرمزي الهائل في وعي ووجدان الكثير من المفكرين والأدباء العرب المعاصرين، ربما يمكننا أن نرجع ذلك إلى التخبط الطويل الذي عاناه الخطاب الثقافي العربي في محاولاته لتلمس هويته، أو إلى التجارب الذاتية لمنتجي ذلك الخطاب، الذين حاولوا أن يجدوا لأنفسهم نقطة ثبات وحضور ضمن شرط وجودي وثقافي مضطرب ومشوش، من خلال الاعتماد على الأرشيف الحضاري الهائل الذي قدمه لهم التراث، وهو الأرشيف الذي لايزال هلامياً ومفتوحاً على كل أشكال الاستعمال الثقافي، بسبب تنوع وغنى دلالاته من جهة، ولقصور القراءة «العلمية» المعاصرة عن تقديم تحديدات صارمة له من جهة اخرى.

وفي حالة الراحل الكبير محمود درويش فإن صفة «شاعر المقاومة الفلسطينية» التي لازمته منذ بداية وحتى نهاية تجربته الشعرية والثقافية (رغم تغير أشكال ومضامين تلك التجربة كثيراً عبر المراحل والتطورات المتعددة التي مرت بها) قد جعلته معبراً عن كلتا الحالتين، فهو بوصفه شاعراً كان يسعى إلى تأصيل وتوطيد صوته الشعري من خلال إغنائه بالرمز التراثي؛ وهو بوصفه معبراً عن مقاومة فلسطينية، كان لها أن تصبح ظاهرةً موثرة في الحياة السياسية والثقافية العربية، وجد نفسه مضطراً لأن يسائل التراث، وأن يطرح عليه شعراً أسئلة الهوية والمصير. وسنرى كيف أن مسار تطور تجربة درويش قد جعل شخصية المقاوم تنحل تدريجيا ضمن شخصية الشاعر، لتصبح المقاومة (بعد أن تحولت إلى شجون وأطياف مشاعر شخصية) شأناً من شؤون الشعر، بعد أن كانت شخصية المقاوم مسيطرةً بشكل كبير على شخصية الشاعر، وكان الشعر شأناً من شؤون المقاومة. وكيف انعكس ذلك على استخدام الرمز التراثي في تجربة درويش.

في المرحلة المبكرة من تجربة درويش، والتي توافق مرحلة ظهور منظمة التحرير الفلسطينية، كان الهم الأساسي للثقافة الفلسطينية هو تكوين هوية لشعب قد تم تشريده من أرضه، قبل أن يتمكن من بناء دولته المستقلة وتأسيس ثقافته الوطنية، وكان التراث أحد أهم المنابع لتكوين تلك الهوية، باعتباره حضوراً متواجداً بقوة في اللغة والذاكرة الجمعية، وهكذا فقد استعمل الرمز التراثي في شعر درويش كأحد علامات انبثاق الهوية الفلسطينية، وتم توظيفه في سياق القصيدة ضمن علاقة بنيوية مع غيره من الرموز التي تعبر عن تلك الهوية (الأرض، المقاومة، ثنائية الوطن والمنفى).

مع تطور تجربة درويش الشعرية، بدأ توظيف الرمز التراثي في القصيدة يزداد عضويةً وتكثيفاً، حيث استعملت الرموز والاسقاطات التراثية لتشكيل جسد عدد من القصائد الأكثر تميزاً، وقد اختلف دور الرمز التراثي لدى درويش في هذه المرحلة، التي ترافقت مع تدهور المقاومة الفلسطينية، الذي وصل إلى ذروته مع خروج منظمة التحرير من لبنان، واستقرارها في تونس. فلم يعد دور استدعاء التراث الآن صياغة هوية فلسطينية ناشئة، بل أصبح التراث وسلية لتقديم تعبير فني أكثر عمقاً وتأصلاً عن مشاعر الخيبة والضياع والحيرة التي يعيشها درويش، والإنسان الفلسطيني بشكل عام، ولعل قصيدتي «رحلة المتنبي إلى مصر» و«أنا يوسف يا أبي» هما خير من يعبر عن تلك المرحلة.

أما في المراحل الأخيرة من التجربة الدرويشية، وهي المراحل التي اتسمت بالنزعة الذاتية، سعى درويش إلى إعادة صياغة ذاته شعراً، عن طريق موضعتها ضمن أقانيم اللغة والتاريخ والذاكرة، طارحاً على نفسه وعلى القارئ الأسئلة الوجودية الكبرى. وقد تم استعمال الرمز التراثي ضمن هذا السياق، حيث نراه حاضراً ضمن لعبة أقنعة يستعيرها الشاعر، لتأصيل وترسيخ تساؤلاته، وإغنائها بمستويات عدة من الدلالة، ليبلغ استخدام الرمز التراثي عند درويش بذلك ذروته الفنية والجمالية.

هكذا وعبر تجربة غنية متعددة الأوجه والمراحل، استطاع محمود درويش أن يصيغ مقاربته الفنية الخاصة للتراث ورموزه، وهي المقاربة التي تميزت بغناها وأصالتها ضمن المشهد الشعري العربي المعاصر، ليفقد التراث برحيله أحد أعظم من عبروا عنه فنياً.

آخر تعديل على الثلاثاء, 23 آب/أغسطس 2016 12:02