مطبات: هاوية.. للفراغ

انكسر الحلم الذي خدعنا، تشظى كمرآة توارثتها الجدران، وتجمهرت على بوابتها الوجوه، مرة لمسح دمعة، لتهذيب تسريحة مستوردة، لتفحص التجاعيد، وأخرى كنظرة وداع.
هكذا خرت أحلامنا على مر السنوات الطويلة، وتداعت مع عمرنا المطارد دعواتنا الصارخة إلى هسيس مجروح، تعلمنا حبس الدموع لأنها لا تليق بالرجال، ابتلاع الصيحات المخنوقة خوفاً من فاسد متنفذ، استمرأنا الحلول المجزأة، أنصافها، نسيان ما لنا وما علينا، لأننا اقتنعنا بالأمر الواقع على الرؤوس.

انتفخنا من الهرمونات الحيوانية في جلد دجاجة مشوية، وتهدلت رقابنا من قلة اليود في مياه الشرب التي غارت، وصرنا نصاب بالغدة الدرقية.. أسقط الهواء الفاسد الكثيرين بالجلطة، وتنفسنا الصعداء دخاناً.
تواطأنا على ذاكرتنا ببعض الأغنيات المصورة مع خلطة عربيات وروسيات، وانتبهنا أن المرأة التي حلمنا بها ليست في الأماكن التي نرتادها للحديث المشحون بالفكر والشذوذ، حذفنا مع المت أجيالاً تغنينا بأناشيدها، وسلطنا لعناتنا على نزار قباني بتهمة السطحية والبعض بتهمة الفجور، أطربنا حديث عبلة الرويني عن سنوات الضياع التي أهلكت أمل دنقل وأقلته للآخرة بمرض عضال، استمتعنا بفاجعة نجيب سرور، وبلاهتنا عندما نسأل: من قتل صلاح جاهين؟.
   تلذذنا برسائل غادة السمان إلى غسان كنفاني، وأدركنا أنه بشر مثلنا يعشق ويختال، وسال لعابنا وأشياء أخرى للعلاقة السرية بين الفنان الجزائري وعشيقته الشرقية ومتعة الجنس في المقبرة، تألمنا مع رجب في شرق المتوسط، امتلأت عيوننا بالحصى، والغبار غطى حتى شعر صدورنا ونحن نقرأ مدن الملح، حسدنا الكلب في (حينما عبرنا الجسر)، تورطنا بالسباب مع النواب، وبالموت الأبيض مع السياب، وعشنا الوطن على طريقة الماغوط، ثم دفناهم جميعاً في نسخة مخبأة في الذاكرة، في الهاوية.
وقعنا في الفراغ.. الرقص المريب، الأشعار الممطوطة، الشعراء المخنثين، المثقفين السبايا، رواد المقاهي الذي يشبهون النساء في الثرثرة، والرجال في الفراش، وجاء جيل من مستمعي الثقافة، قوادون، ردادون، يحبون الخمر لأنه يمنحهم الشجاعة، والنساء على هيئة الغواني والجواري، والكتاب لأنه أسهل طريق إلى الصغيرات، شكلوا الفراغ.
الآن.. نحصد بلا هوادة نتائج الفراغ، تخلينا على النقابات لأن قادتها لا يشبهون ممثليهم، السياسة لأنها ضيعت بوصلة الهدف، الاقتصاد لأنه صار يأكلنا بفم التجار والمتنفذين وأصحاب النظريات الجديدة عن السوق المفتوح على جوعنا ووجعنا، ولأننا ازددنا فقراً، وصارت الطوابير التي طالما اعتبرناها إهانة لنا أرحم من ذل عدم الحيلة والجيوب الفارغة، ترحمنا على دفاتر الإعاشة، وبون الزيت والسكر والشاي والرز الطويل، هرب الماء من أنهارنا، ينابيعنا، وصرنا ندعو الله ألا يأتي بالمطر بعد أن بعنا قسائم المازوت، وصارت السواقي أنهار أبنائنا القادمين إلى التصحر.
الآن.. نحصد ثمرات الفراغ، الجيل الذي صنع لنا الفراغ، مدارس ليست لأبنائنا بعد حين، جامعات أبعد من الحلم، الموازي والمفنوح، والافتراضي، أم الجامعات العامة فذكرى لنا نحن الذين سنروي لأبنائنا عن المرحلة التي كانت الدولة فيها أمنا وأبانا، عن المرحلة التي كرهناها، وها نحن نَحِنُّ إليها كعجائز يتذكرن باكيات وجوههن في المرايا.
الآن... الفراغ سيد الوقت الذاهب بنا إلى المجهول، السيد الذي لا نقوى على معاندة أوامره، نغسل أقدام السوق الاجتماعي، نقبل يد القطاع الخاص على منتجات (الشيبس)، نحلم بالمطاعم التي تقدم (كنتاكي)، نذرع الشوارع حالمين بسيارة بالتقسيط من سنغافورة، وبشقة بقرض إسلامي أو علماني، بقرض طويل الأمد أطول من أعمارنا، بعلبة كوكاكولا كانت على قائمة السواد، وجهاز خليوي بكاميرا، ومحفظة على الظهر خبئنا فيها من بعيد ذكريات ما قبل الهاوية والفراغ، وديوان شعر قديم يحكي عن مدينة عربية، امرأة، وصايا، أحلام، رجال، طعام شهي ينبت في الأرض لا في الثلاجات، نهر، نهد.. نكهة سقطت في الهاوية.. الفراغ.