تراث تصوف.... ثورة الذات في الإسلام (1)
يصعب علينا أن نقدم فهماً متكاملاً لتعامل التراث الإسلامي مع الذات - الذات بمعناها الأنطولوجي (الوجودي) العام، وليس بمعناها الفرداني المميز الذي نشأ بنشوء الدولة البرجوازية في أوروبا الحديثة- وذلك بسبب ابتعادنا عن تعيين تحديدات جوهرية مفارقة لحركة التاريخ، تفترض وجود «تراث إسلامي» متبلور ومتكامل الهوية وأحادي التوجه عبر العصور، وخلال مختلف التقلبات التاريخية والحضارية، وهكذا فمن الصعب القول إن «الإسلام» قد بلور نظرةً واحدة ومتكاملة عن الذات، وأقصى ما يمكننا بحثه هو مجموعة من الخصائص العامة التي تميزت بها النظرات المختلفة عن الذات في التراث الإسلامي عبر عصوره ومراحله المتعددة، والتي أدت إلى نشوء التصوف كردة فعل قوية من جانب الذات الإسلامية على هذه النظرات.
حمل الإسلام كعقيدة في مرحلته التأسيسية المبكرة الكثير من خصائص الأيديولوجيا الجمعية، ففضلاًُ عن الطموح السياسي والاجتماعي البارز الذي عبَّر عنه، كان تحديده لميادين كالأخلاق والعبادات والطقوس الدينية تحديداً اجتماعياً دائماً، يطغى فيه الجانب الجماعي اللاشخصي على الجانب الذاتي الفردي، فقد تم فهم الواجب الأخلاقي في الإسلام المبكر كشأن اجتماعي عام، لاغنى عنه لقيام المجتمع المسلم واستمراره، ولعبت العبادات والطقوس الدينية، إلى جانب مغزاها الإيماني، ودورها في التعبير عن علاقة العبودية بين الإنسان والله، دوراً إجتماعياً هاماً، كان هو الجانب الأكثر أهميةً وبروزاً فيها، من خلال قيامها بتأكيد تماسك وهوية المجتمع الإسلامي، هكذا كان لمعظم العبادات الإسلامية كصلاة الجماعة والصيام والحج والزكاة سمة جماعية مميزة، برزت من خلال طقوسها الإجتماعية المضبوطة والمحددة بدقة، والتي جعلتها عبادات اجتماعية بكل ما في هذا الجملة من معنى. وضمن هذه البنية الجمعية التي قام عليها الإسلام المبكر لم يكن هنالك مكان للذات الفردية، التي أقصيت إلى مؤخرة الاهتمام العقائدي الإسلامي، وتم تذويبها في البنيان الإجتماعي الأعم.
وفي المرحلة التالية من تاريخ الفكر الإسلامي، والتي يمكننا تسميتها بالمرحلة الأيديولوجية-الكلامية، والتي ترافقت مع تطور وتبلور عملية نشوء الدولة ومؤسسات السلطة، بكل ما أثارته من مشاكل وصراعات سياسية واجتماعية، حاولت مختلف الفرق السياسية-الدينية التي نشأت في ذلك العهد (الخوارج، القدرية، المرجئة، الجهمية، الشيعة...الخ) أن تصبَّ كل القضايا الفكرية والعقائدية في الإسلام في قوالب أيديولوجية سياسية، وفق متطلبات الصراع السياسي القائم في ذلك العهد، هكذا غدت قضايا كالقدر والمصير والإيمان، وعلاقة الإنسان بالله والعالم، قضايا سياسية أيديولوجية عامة بامتياز، ولم تعد من شؤون الذات وقضاياها.
طرأ على النظرة إلى الذات في التراث الإسلامي تطور هام مع دخول الفكر الإسلامي إلى المرحلة الفلسفية، فقد بدأ الفلاسفة المسلمون بتحديد موقع الذات الإنسانية ضمن مراتب الموجود، إلا أن الفهم العقلاني الاجتماعي قد طغى على نظراتهم للذات، التي تمت موضعتها ضمن البنيات العقلية شديدة التعقيد التي ابتكروها أو طوروها.
هكذا لم تقم الثقافة الإسلامية في مختلف عصورها ببلورة مفهوم خاص ومستقل للذات، فقد طغى المجال الخارجي في هذه الثقافة (المجتمع، السلطة، السياسة، الايدولوجيا، الشريعة، المنظومات الفكرية الكلية) بطابعه السلطوي في المجال الداخلي الذاتوي، وهكذا يندر أن نجد في تراثنا كتباً أو مأثورات تحتفي بالذات بكل مقاماتها وأحوالها، مما أعاق تبلور الممارسة الفعلية للذات الفردية الإسلامية، من هنا نشأ التصوف الإسلامي كردة فعل ذاتوية على التهميش والتقزيم المتأصل والمتراكم للذات في الثقافة الإسلامية، وقد اتخذ رد الفعل هذا شكلاً ثوريا، تمثل أساساً ضمن عمليتين أساسيتين، الأولى كانت الفصل الكامل بين المجال الخارجي (الاجتماعي و السياسي والطبيعي) وبين المجال الداخلي (الذاتوي) لأجل الحفاظ على الذات، ومنع دمجها وتذويبها ضمن تحديدات المجال الخارجي، والعملية الثانية كانت الخروج من الذاتوية الضيقة، وتوسيع الذات من خلال الاتحاد والفناء في الكلي واللا محدود، وهكذا اتسعت الذات المتصوفة لتشمل العالم بأسره، ولتقول كلمتها في هذا العالم.
■ محمد سامي الكيال
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.