صور رمادية بين الثقافة والإعلام
يستمر المشروع الثقافي الوطني التحرري بالغياب، ولا تظهر في الزواريب والمطارح والمنابر الأدبية والفنية، أو الوسائط الإعلامية المحلية أو العربية المرهونة بغالبيتها لمصلحة أعداء هذا المشروع، أو على الأقل لغير المعنيين بوجوده أو المتحمسين له؛ أية بوادر أو مظاهر توحي بمحاولات حقيقية، فردية أو جماعية، للشروع بإحيائه، خصوصاً وأن الحوامل والحواضن الأساسية التي يمكن أن يولد في رحمها في هذا الشرق الواسع، ما تزال مغيبة بحكم الواقع المستمر منذ عقود، أو بحكم إدمان التراخي والسلبية الذي كرّسه الترهّل، أو ربما بسبب قصور الرؤية واضمحلال المعرفة وهيمنة الخوف..
ورغم توفر الظروف الموضوعية المرتبطة بأزمة النظام الاستبدادي الكوني، وعودة الروح للقوى والحركات والتيارات المناهضة لهذا الاستبداد في بعض المناطق الجغرافية من العالم، إلا أن الجانب الذاتي لدى الأفراد والمجموعات الصغيرة، ما يزال عاجزاً وقاصراً، غير قادر مع غياب المؤسسات والفعاليات الاجتماعية الراعية، على تلقف المرحلة المتغيرة لمصلحة هذا المشروع، لتبقى الصورة الثقافية في بلادنا، المتجلية في الإعلام تحديداً، ملونة برمادي مقيم.. وهذه بعضها..
• يغيب المثقف العربي التقدمي عن الشاشات، وإذا حضر، يبدو على الغالب متخبطاً، متناقضاً، ومحايداً أو مرتبكاً تجاه الكثير من القضايا التي لا يجب أن يكون محايداً أو مرتبكاً، أو غير ذي موقف تجاهها، ويغيب معه الشعار الثقافي التحرري المحكوم بغياب البوصلة الثقافية التحررية.. مما يتيح المجال، وقد سقطت أو تعطلت أو بهتت شعارات الأنظمة، لتمرير شعارات ما كانت لتمر في فترات سابقة.. أو ليسود نوع من الغثاثة. أضرب مثالاً: تلقّن إحدى الشخصيات الطلابَ في مسلسل تركي مدبلج، وبلهجة دمشقية خالصة: «مين اللي وحّد بلادنا؟».. يجيب الطلاب باللهجة الدمشقية الفائقة الانتشار ذاتها: «الزعيم كمال أتاتورك»!! تتابع: «مين اللي هزم أعداءنا»؟ يصر الطلاب: «الزعيم كمال أتاتورك»!!..
• يجد المثقف العربي في الإعلام المقروء، الورقي والإلكتروني، فرصة جيدة لعرض ما لديه من شجون عامة، ولكنه غالباً ما يتجنّب الغوص عميقاً في المحرّمات التقليدية المعروفة خوفاً أو جهلاً أو حياديةً، يكرّس ذلك انعدام أو ضعف كل ما قد يؤمّن له الدعم المادي أو الاجتماعي أو الحقوقي أو المعرفي الاستراتيجي، ولذلك نجد الكثيرين منهم عند أول محك يدفعهم إليه نقدٌ قاس أو رديء، أو تجنٍّ، وقد أظهروا كل كبتهم أو تسطّحهم أو تخبّطهم أو فراغهم.. فيأخذون بالشتم والمماحكة ومحاربة طواحين الهواء، ليغرقوا في صراعات طويلة لا طائل ولا جدوى منها، خصوصاً بعد أن يتجمهر حولهم وحول خصومهم المزيّفين مريدون يفوقونهم تخبطاً، ويتحزب للمتنازعين على اللا شيء من يرون فيهم نافذة للظهور..
• يعتزل بعض المثقفين الإبداع والناس والمنابر والحياة الاجتماعية، وينكفئون على أنفسهم.. بعضهم يدمن صيد السمك أو الطيور، وبعضهم يعود إلى قريته النائية ليدمن الصمت والكحول والـ... ويربي الدجاج والحمام والماعز والنحل.. وبعضهم، وهم قلة، يختارون الغياب البيولوجي المطلق.. فإلى متى يستمر هذا العقم؟؟