تراث: ابن باجة و«تدبير المتوحد»

سنحاول في هذه المرة أن نتتبع المصائر التي آل إليها الطموح الفلسفي التنويري في التراث الإسلامي، وإذا كنا قد أشرنا في المرة الماضية إلى مشروع إخوان الصفا الطَموح في نشر الوعي والمعرفة بين أوسع شريحة ممكنة من الناس، أملاً بالوصول إلى الخلاص الاجتماعي من الأوضاع المتدهورة والقاسية التي عرفها العالم الإسلامي في زمنهم، فإننا سنرى في هذه المرة العزلة والتراجع الكبيرين اللذين أصابا ذلك الطموح التنويري من خلال قراءتنا لتراث الفيلسوف الأندلسي الكبير ابن باجة، وخاصة عمله الأهم ذا العنوان الذي يحمل الكثير من دلالات الكآبة والشجن: «تدبير المتوحد».

لم يكن الطموح المعرفي لابن باجة يقلُّ في حال من الأحوال عن الطموح المعرفي الذي عبَّر عنه إخوان الصفا، فهو واضع الأسس الفكرية التي قام عليها بنيان الفلسفة في القسم الغربي من العالم الإسلامي، ولكن ذلك الفهم لضرورة الفكر الفلسفي الذي شهدناه لدى إخوان الصفا والذي ارتبط بحلم التغيير الاجتماعي، تراجع مع ابن باجة إلى مجرد يوتوبيا للخلاص الفردي، قامت على أساس فكرة الحكيم المتوحد، الذي لا يستطيع إلا من خلال وحدته وعزلته أن ينال السعادة.

لايمكننا في الواقع أن نردَّ ذلك الموقف الذي اتخذه ابن باجة إلى نزوع نخبوي معيَّن لديه، بقدر ما يمكننا ان نتفهم أسبابه في الظرف التاريخي الذي عاش ضمنه، فعلى العكس من عصر اخوان الصفا الذي تميَّز بالانفتاح الثقافي والحد الادنى من التسامح الفكري، شهدت الأندلس في عصر ابن باجة تضييقاً كبيراً على مختلف مناحي الحياة الثقافية والفكرية، فقد قام المرابطون الذين حكموا الأندلس في ذلك الزمن بفرض نمط فكري جامد ووحيد على الناس، وقمعوا كل من خالفهم فكرياً حتى في أبسط الأمور، فما بالك بمن ارتكب «خطيئة» الفلسفة!! هكذا عاش ابن باجة حالةً من التمزق والانفصام، فلم يكن باستطاعته وهو الذي تقلَّد لمؤهلاته العلمية منصب الوزارة لدى المرابطين، أن يجاهر بأفكاره علناً، فقُضي له أن يكون وزيراً في العلن وفيلسوفاً في الخفاء، ممثلاً بذلك كل معاناة المثقف في ذلك العصر.

وإذا كان ابن باجة قد أخذ بفكرة المدينة الفاضلة -حلم الفلاسفة العتيد- فإن تصوره عنها يختلف كثيرا عن تصور إخوان الصفا وغيرهم من الفلاسفة، فالكمال الذي هو غاية هذه المدينة يمكن أن يناله المتوحد سواءً أعاش في مدينة فاضلة أو غير فاضلة، هكذا لم يجد ابن باجة حلاً في العصر المتزمت الذي عاش فيه إلا التمييز بين جانبين في الإنسان: فهنالك «الإنسان الجسماني» الذي يجب عليه أن يعيش ضمن شروط مكانه وزمانه، متقيدا بقيود عصره وإكراهاته الكثيرة، وقانعاً بالعيش في المدن الفاسدة، وهنالك «الإنسان الروحاني» الذي بعد إدراكه لانعدام وجود المدن الفاضلة واستحالة الوصول إلى تحقيقها، لايبقى له إلا أن يغشى وحدته ليتدرج في إدراك «الصور الروحانية» حسب تعبير ابن باجة، حتى يصل إلى الاتصال ب«العقل الفعَّال».

عبر هذا المخرج الذي يقترب كثيراً من تصورات المتصوفة، وجد ابن باجة العزاء لنفسه ولغيره من «المتوحدين»، وبعد أن كان الطموح الفلسفي في مرحلة الذروة الحضارية الإسلامية قد وصل إلى حد رسم الخطط والتصورات وأساليب العمل الجماعي للوصول إلى مجتمع المستقبل، غدا في مرحلة الانغلاق الفكري والتزمت الحضاري التي عرفها عصر ابن باجة مجرد تدبيرٍ للمتوحد. ولعل هذه الكلمات المأخوذة من «تدبير المتوحد» هي خير معبِّر عن مأساة ابن باجة  وغيره من مثقفي ذلك العصر: فهو يحدثنا عن «الغرباء، لأنهم وإن كانوا في أوطانهم وبين أترابهم وجيرانهم، غرباء في آرائهم، قد سافروا بأفكارهم إلى مراتب أُخَرْ، هي لهم كالأوطان».

■ محمد سامي الكيال

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الثلاثاء, 29 تشرين2/نوفمبر 2016 10:48