محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

القدسُ عاصمةً... لأية ثقافة؟

بحلول العام 2009، الذي ابتدأ وسط فوضى مشاهد الدم والخراب القادمة من قطاع غزة، ستواجه الثقافة العربية المعاصرة استحقاقاً كبيراً، بعد أن اختيرت مدينة القدس المحتلة (أو رمزية اسمها على الأقل) عاصمةً للثقافة العربية في هذا العام. لايمكن لأحد بالطبع أن يشكِّك في أهمية هذه الخطوة وضرورتها، كما لايصحُّ التساؤل عن أحقية القدس في تبوُّء هذه المكانة، ولكن ما تثيره هذه المناسبة من إشكاليات سيدفعنا إلى طرح بعض الأسئلة التي تتعلَّق أساساً بحاضر الثقافة العربية، وبما يمكن لها أن تقول في هذه التظاهرة الإستثنائية.

التحدي الذي تواجهه الثقافة العربية المعاصرة يكمن في قدرتها على أن تجعل من مدينة مهددة في هويتها الثقافية العربية منطلقاً أساسياً لإيصال صوتها وقول كلمتها طيلة عام كامل، وأن تثبت من ذلك المنطلق قدرتها على الصمود والعطاء ضمن شرطٍ تاريخي- ثقافي هو الأصعب... التحدي إذاً يطال أحقِّية هذه الثقافة في الوجود والبقاء.  ولعلَّ السؤال الأساسي هو: هل ستستطيع الثقافة العربية المعاصرة مواجهة هذا الرهان؟ وهي الثقافة التي مازالت تعاني الكثير من التخبط في تحديد أولوياتها، وفي تقديم مقاربات شافية لإشكالياتها الرئيسية. والتي تشهد ضعفاً كبيراً في حسِّها النقدي، وفي قدرتها على طرح أكثر الأسئلة صعوبةً وحساسية!!

أمام هذا الواقع تبدو آفاق احتفالية «القدس عاصمة الثقافة العربية» محصورةً في خيارات محدودة، يمكن أن نوجزها بخيارين رئيسيين:  

1 -  تأكيد الهوية... ثقافة «التتريث»:

يبدو طبيعياً، نظراً لخصوصية الاحتفالية، أن تنصبَّ معظم الجهود والإسهامات المشاركة فيها على تأكيد هوية المدينة المحتلة، وإبرازها بأجلى صورها، ولكن أية هوية للمدينة ستبرز الثقافة العربية المعاصرة في شرطها الراهن؟

وفي ظل تدهور الخطاب الثقافي الحداثي على الصعيد العربي فإنه من المتوقع أن يكون الجواب على سؤال الهوية جواباً تقليدياً وماضوياً، يرتكز على عناصر الثبات والركود في الجوهر المفترض لهوية المدينة، ويعجز عن القيام بأية صياغة جديدة وحركية لتلك العناصر ضمن بنية خطاب حداثي يلامس روح العصر. تأكيد الهوية بهذا الأسلوب هو فعل انكفاء متشنج على الذات، وإعادة إنتاج سطحي لها، سينتهي إلى «تتريث» معظم فعاليات الاحتفالية، أي إلقاء حلة الماضي عليها، لجعلها مرتبطةً بتراث يعود إلى عصر ذهبي مفترض، وكأن التركيز على الفنون وأنماط الحياة المقدسية التقليدية سيعيد وحده إلى المدينة رونق أيام ولَّت دون رجعة!! وهكذا ستنحصر معظم النشاطات في التسالي الفلكلورية، بدلاً من إنتاج هوية مقاتلة تفرض كلمتها على الجميع. 

2 -  تأكيد الحضور... «ثقافة» المقاومة:

من المحتم أن تتخذ ثقافة المقاومة لنفسها مكانة الصدارة في احتفالية القدس، رغم تباين توجهات وغايات القائمين على الاحتفالية، وقد زاد تمسك الشعب الفلسطيني وبقية الشعوب العربية بخيار المقاومة من راهنية وجود تلك الثقافة، بوصفها تأكيداً لحضور تطلعات ووجدان شعوب بأكملها من خلال الفعل والخطاب الثقافيين.

إلا أن هناك الكثير من الأسباب التي تدعونا إلى وضع كلمة ثقافة بين هلالين مزدوجين لدى الحديث عن «ثقافة» المقاومة، فإذا أخذنا الكلمة بمعناها العام والواسع نجد أن للمقاومة حضوراً ثقافياً راسخاً في مخيال الجماهير العربية، يتجسد في عدد من القيم والرموز والتصورات الموروثة ذات الطابع الديني والوطني، وهذه القيم والتصورات قادرة على تحريك الجماهير وقت اللزوم. أما أخذنا كلمة الثقافة بمعناها الضيق، أي بدلالتها على الإنتاج الثقافي المخصوص، فسنجد أن حركات المقاومة العربية المعاصرة لا تملك إنتاجاً ثقافياً حقيقياً، بل ولا تهتم كثيراً بذلك الإنتاج، وتعادي الكثير من أساسياته ومقوماته، أما المثقفون «المستقلون» فهم قاصرون عن تغطية المقاومة ثقافياً، أو لا مبالون بذلك أصلاً!!

وإذا كان البعض قد تساءل عن سبب غياب شعر المقاومة ونثرها، ومختلف فنونها البصرية والسمعية الأخرى، فإننا سنمدُّ هذا التساؤل فيما يخص الاحتفالية لنصوغه بالشكل التالي: كيف ستقدم الاحتفالية المقاومة ثقافياً؟ وبأي من وسائل وأدوات الفعل الثقافي؟ ومن الذي سينهض بعبء هذه المهمة؟ وهل ستنجح في صياغة خطاب ثقافي راق، قادر على مخاطبة الآخر، والوصول إلى العالمية؟

مابين استحقاقَي تأكيد الهوية وتأكيد الحضور ستمضي أيام الاحتفالية، فمالذي ستقوله لنا القدس هذا العام، ومالذي سنقوله لها؟

آخر تعديل على الجمعة, 05 آب/أغسطس 2016 11:42