«الأمل» يخرج من سوق البضائع!

«الأمل» يخرج من سوق البضائع!

مضى حتى الآن 168 عاماً على كلمات ماركس وإنجلز التالية: «نزعت البرجوازية الهالة عن كل مهنة كان يُنظر إليها بهيبة واحترام. فحوّلت الطبيب ورجل القانون والكاهن والشاعر ورجل العلم إلى أجراء في خدمتها»..

البرجوازية إنما فعلت ذلك، بتحويلها منتجات هؤلاء، من «منتجات طبيعية» غرضها تلبية حاجة الناس، إلى بضائع غرضها تلبية الربح وزيادته ومراكمته.

تشمل هذه العملية موجودات الحياة كلّها، وبلا استثناء تقريباً، وهو ما يعبر عنه بالقول أن كل شيء بات مسلّعاً، أو أنه أصبح بضاعة تباع وتشرى، بما في ذلك مشاعر الناس حزناً وفرحاً، حباً وكرهاً.. أملاً ويأساً، وهو كلام بات مكرراً وواضحاً بقسوته وجبروته، ليس لمن قرأ في أدبيات الماركسية فحسب، بل ولكل إنسان على وجه البسيطة الذي جعدّته الرأسمالية وملأته قبحاً.. فما الجديد؟

برز خلال العقود القليلة الماضية هروب بعض المنتجات البشرية من «سوق البضائع»، وذلك لأن طبيعتها الخاصة لا تسمح لها بأن تكون سلعة، ووضعها «الطارئ» كسلعة إنما فرض عليها قسراً.. العلم هو أحد أهم تلك المنتجات، والذي استند في خروجه (الذي لم يكتمل حتى اللحظة) إلى التطور الهائل في تقنيات الاتصال، وبتنا نتابع تعاظم ظواهر المصادر المفتوحة التي تعادي «حقوق الملكية الفكرية» بشكلها الرأسمالي الربحي..

لكن «بضاعة» أخرى، ربما لا يجري الانتباه إليها كثيراً، خرجت هي الأخرى من «السوق»، وخروج هذه البضاعة بالذات ربما سيكون المسألة الأكثر حسماً في تاريخ الرأسمالية ككل.. إنها الأمل!

الرأسمالية، ومع تشكل علاقاتها ومن ثم وصولها إلى سدة الحكم السياسي في أوروبا ومن ثم في العالم أجمع، وعدت البشرية بالتطور الهائل، وبالتقدم التكنولوجي، وصدقت وعدها، ووعدت بالحرية والإخاء والمساواة وحققت شيئاً منها في مراحلها الأولى، وفي سياق محاربتها لسلطات العالم القديم، ولكنها وبمجرد وصولها إلى السلطة، بدأت تمارس في الواقع عكس تلك الشعارات تماماً، مع ذلك فهي أبقتها مرفوعة وطورتها وعززت حضورها..

في مرحلة لاحقة، وتحديداً مع انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية، كانت الرأسمالية مضطرة إلى إعادة شيء من الألق إلى شعاراتها القديمة في إطار التنافس والصراع مع النموذج الجديد، فخرجت على الناس بـ«دولة الرفاه» وبـ«الحلم الأمريكي».. واستمر هذا النهج ردحاً من الزمن، محققاً بعض المكاسب لشعوب الدول المركزية في العالم الرأسمالي استناداً إلى نهب بقية الشعوب بأدوات الاستعمار الاقتصادي.. لكن تحولاً كبيراً بدأ يتأسس منذ أواسط ستينات القرن الماضي..  

في تلك المرحلة، ونتيجة لتعمق تناقضات الرأسمالية نفسها، بدأت تظهر إلى السطح طروحات جديدة في مختلف المجالات: في الثقافة والأدب بدأت قيم الحداثة التي حملت بشكل أو بآخر شعارات الرأسمالية الأولى نفسها بإنسانويتها العامة، بدأت بالانحسار لمصلحة قيم ما بعد الحداثة التي تمثلها البنيوية خير تمثيل، فالمؤلف قد مات، والنص ليس إلّا «تناصاً» يكرر ويعيد توليف ما كتب سابقاً، والقراءة متعددة إلى ما لانهاية، ولا مركز أو مستقر لها، وتالياً لا وجود للوظيفة الفنية والأدبية، هو عالم اللاشيء! هو عالم مظلم عدمي وعديم الجدوى، قبيح لا فرح فيه إلا ما يمكن للنخب أن تسترقه من نشوات عابرة وصوفية باتحادها الفرداني بروح الكون العصية على العوام..

في الاقتصاد، سادت الليبرالية الجديدة، وانتهى الحديث عن مجتمع «تحكمه القيم» و«تنظمه اليد الخفية للسوق»، لم يعد هنالك مجتمع من أساسه، «لا يوجد شيء اسمه مجتمع هنالك أفراد من الشباب والشابات والعائلات» حسب مارغريت ثاتشر.. 

في الفكر السياسي، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، لم يعد هنالك «نموذجان حضاريان» يتصارعان ويحاول كل منهما إثبات جدارته وأفضليته في تقديم الخير للناس، بل بات العالم بأسره غابة لمجموعة من الحضارات المتنازعة المتصارعة المتناقضة «بطبيعتها»، والتي ستبقى تتحارب إلى أبد الآبدين.. وهنالك الإرهاب والقتل والوحشية، وأفضل ما يمكن أن تعد الناس به هو أن تنجي رقابهم من الذبح، لم يعد لدى الرأسمالية أحلام وآمال تبيعها للناس..

النجاة الفردية باتت آخر صنف من أصناف بضاعة الأمل، وهذه نفسها ما عادت تقنع أحداً، فلا «خطوات النجاح العشرة» تحرز نجاحاً، ولا البذلات الرسمية، بربطات العنق المشدودة، تبدو جميلة أو محببة لعمال يلبسونها مكرهين كي تناسب أماكن العمل الجديد، والأهم أنها لا تنسيهم أن ارتداء رؤسائهم لبذلات شبيهة ليس إلّا خديعة مساواة مقززة إلى أبعد الحدود..

العلم ذاته، لم يعد باباً للأمل! فالعلم ريب ولا ريب! العلم الذي تقدمه وتدعمه الرأسمالية بات أكواناً متكافئة وعدم تعيين مطلق وغياباً لأي ثابت، عومٌ شفيف على حدود مهزلة.. لا شيء مضموناً ولا شيء يستند إليه، هنالك الشك فقط، وليس للإنسان أن يفسر شيئاً ولا أن يتنبأ بشيء، وليس قادراً على تغيير شيء أو التحكم بشيء..

باتت الرأسمالية مكافئاً للقبح، ومكافئاً لغياب الأمل، وهذا يعكس حقيقة الأقدار التي تقود البشرية نحوها.. إنّ عجز الرأسمالية عن بيع الأمل، يعني بالضبط أنها لم تعد قادرة على الحياة، هي تعدنا بالموت فقط، وبات الأمل الإنساني محصوراً بطريق واحد.. هو موت قتلة الأمل البشري، موت الرأسمالية بات السبيل الوحيد لحياة الإنسان..!

آخر تعديل على السبت, 30 تموز/يوليو 2016 14:48