أبي الذي أقلع عن التدخين ..
لا أذكر اسم ذلك الكاتب المصري الذي امتدح الحصّادين في إحدى قصصه حال خروجهم إلى حقولهم ليلاً وهم يوقعون الخطى مع بهائمهم على الطرق الزراعية، وتمنى أن يكون معهم. وها أنا أدعوه هذا الصيف (إن كان على قيد الحياة) إلى وليمة حصاد ليخوض التجربة عمليا، وبكل ثقة أبوح لكم أنه سيبدل تصوراته مع أول جلسة قرفصاء وأول تثاؤب أمام أعواد القش الشامخة كالأشباح...
كان الحصاد من أشق الأعمال التي مارستها في حياتي ومن أكثر الأعمال التي زعزعت ثقتي بالفلاحة والزراعة. ولأول مرة أقول: إن ممارستي لهذا الشقاء كان سيزعزع ثقتي بالأرض أيضا لو طال أكثر. ينطبق هذا الشيء على والدي وأغلب إخوتي، وإلى اليوم أود مقابلة ذلك الكاتب المصري في برنامج تلفزيوني من عيار «الاتجاه المعاكس»، لأبين له حجم التضليل الذي حاق به و بمن يطبّل للحصيدة والحصّادين. كان أبي من طينة هؤلاء الرجال الذين يحملون الرجولة بمعناها الريفي، فلم يُدخل في جيبه طيلة حياته قرشاً حراماً، ولم يسمح لابن رجل أن يستغله أو يمس كرامته.. إلا جاره السمان فكان ممن استغلوا أزمة انقطاع التبغ في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، حين احتكر حصته من (الدخانية) لغاية في نفس يعقوب، فحاول إذلال أبي واستغلال حاجة دمه للنيكوتين، وعند اكتشاف أبي لذلك العبث كان أن صدر منه ما مارسه كثيرا ضد «آكلي قوت الشعب» ـ يعجبني هذا التعبير فلم يزل نافعاً حتى في أيامنا هذه!! بصق أبي بصقته الشهيرة في وجه السمان ورماه بعلبة السجائر في منتصف خلقتة إعلاناً منه أن ولعه بالتدخين لا يعني أن يستغله أحد.. ومن حينها أقلع أبي عن التدخين وأدمنا جميعا مع أمي مراضاة أبي حتى يسلو عادته الأثيرة.. ثقة أبي بالله أكبر من أن تزعزها أعظم الأمور و أدهاها، وتعلمنا جميعنا هذا الإيمان منه، وكمحصلة طبيعية لهذا الإيمان اعتبر أبي أن الصلاة عماد الاستقامة والمقاومة، ولم يزل يودني كثيرا لأني أقيمها دون إخوتي الذكور.. لكن في ليلة دهماء حيث كنا نسوق القش أمامنا سمعنا صوت أبي وهو يبحث عن إبريق الماء كي يتوضأ لصلاة الفجر، بعد لأي من البحث عرفنا أن نسمة ريح قد جرفت الإبريق في طريقها (على غير العادة لم نثقّل الإبريق بالماء يومها).. فحاولنا تهدئه روع أبي لأنه خاف أن تفوته الصلاة إن لم يجد الإبريق، فكيف للمرء المقدرة على الوضوء من سطل الماء مباشرة!! فتفاصحنا جميعا بأن الأمر أقل من عادي حتى أن أبي يمكنه التيمم.. لكن نعاس أبي و حزنه على فراق سيجارته أوحيا له أن ما يحدث هو مكيدة مدبرة من طرف أو عدة أطراف، وإلا كيف اتفق ضياع الإبريق مع عدم توفر التبغ في الأسواق؟ بينما كنت مع إخوتي في هرج ومرج نحاول تهدئة الموقف، خلع أبي عقاله وكوفيته ورماهما أرضا، وهي عادة ريفية تعني التحدي لجهة معينة مهما كانت النتائج، وصرخ بأعلى صوته: إذا كانت الحكومة «الكافرة» قد استطاعت دفعي كي أُقلع عن التدخين.. فوالله لا أترك الصلاة حتى ولو سرقت الحكومة البحر!!