عزمي بشارة في«نشيد الإنشاد الذي لنا»: معارضة أدبية للرواية العبرية
بعد أعماله الروائية الرائعة «الحاجز» و«حب في منطقة الظل» يجيء جديده «نشيد الإنشاد الذي لنا» ليبحر بالنسج الأدبي ويغرق بجمالية التعبير الحسي الراقي، فيولد على شكل دفقات إيقاعية، رشيق العبارة، ليجعله «معارضة أدبية حديثة عربية وفلسطينية» لنص «نشيد الإنشاد الذي لسليمان»، وهو أحد أسفار التناخ أي (الكتابات) في العهد القديم، والمصنف كنص أيروتيكي من الطراز الأول يمجد الشبق واللذة والجسد، حيث لا يرد فيه ذكر لله أبدا.
يصوغ بشارة النشيد على لسان امرأة ليست شولاميت بالتأكيد لكن ربما عشتار أو رنا، لتختصر برمزيتها الأنثوية فلسطين بمجموعها، ويظهر اللاجئين بصيغة الحبيب المنفي الذي يتحدث في بعض الإصحاحات التي بلغ عددها تسعة و تسعة هوامش عليها تشكل في ذاتها استكمالاً لنزف الوجع تحت اسم (ما بعد الذي هو ما قبل).
يتجاوز هذا النشيد البيئة وتصوراتها من مراحلها البدائية إلى ذروة عصور التكنولوجيا، فيرد الشجر والتراب والبحر والأسوار، وبالمقابل السيارة والهاتف والبورصة وقهوة الاسبرسو والمكيف، ليشكل رحلة في التاريخ والحاضر مصحوبة بسيل من المشاعر والعواطف الجامحة كالخيبة والرجاء والحنين للبدايات والأمل بالنهايات، المنفى والتوق إلى العودة ووجع الاغتراب المزمن، لينقلنا عبر هذا التمازج والتداخل الكثيف من حواف المقدس التاريخي إلى حقائقنا الصغيرة المعاصرة، في إحالة على حالة الصراع التي تعيشها أرض فلسطين وبلاد الشام، فعزمي بشارة يتعامل مع نشيد سليمان باعتباره جزءا من تراث هذه الأرض وتاريخها، إذ يشير إلى الاختلاف الحاصل حول أصله التاريخي الكنعاني الما قبل توراتي .
«نشيد الإنشاد الذي لنا»... ليس شعراً ولا شعراً نثرياً، ولكنه نص يتجاوز التقسيمات الأدبية ليولد صورة فيها من الشعر الصافي الصارخ بموسيقى الألفاظ الإيقاعية والكثيف الرمز والإيحاء، الرشيق الخارج على الوزن والمألوف. هو صيغة أدبية لمعارضة العبرانيين،هو حوار الذات مع ذاتها ومع الموجودات، ورد على من سرقوا الأرض والتاريخ والتراث، من خلال علاقة حب مع النفس والآخر والأرض بلغة حسية وروحية عميقة، لينتهي الإصحاح التاسع منه عند جملة هي خاتمة ما قد يقال «نشيد الإنشاد الذي لنا هو وهي وأنا»..
■ عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.