أجيال جديدة ونكبة متجددة... دفاعاً عن بداهة العدالة
في الذكرى الثانية والستين لنكبة فلسطين (15 أيار 1948) تنأى هذه الأرض المحتلة بالكامل أكثر، كما تنأى في الضمائر، وتبتعد إمكانية استعادتها وإنهاء الاحتلال كلياً أو جزئياً كما تصبح عودة اللاجئين فكرة يزداد طرحها العملي صعوبة ويقترب تحققها من الاستحالة.
إن الذي حفظ مكانة القضية الفلسطينية وحال دون تقلص حضورها وأوقف اندثارها أو فرض حل غير عادل لها، هو النضال المتجدد للشعب الفلسطيني، والذاكرة الحية لأجيال اللاجئين وتعلقهم ببلادهم، والموقع الذي تحتله فلسطين في نفوس العرب وتحولها إلى رمز عالمي للظلم التاريخي والقوة الضميرية.
واليوم، يتراجع الدور الشعبي في النضال الفلسطيني وتتقاذف القضية أجندات إقليمية قد لا تتطابق مع المصلحة العليا لشعب القضية، فيما تمعن قيادة بائسة غير منتخبة في خيارات عبثية وعدمية، ولأن القضية الفلسطينية في أحد أبعادها الأساسية قضية لاجئين، فإن أي (تجاوز لآثار النكبة) لن يكون ممكناً دون حل هذه القضية، عبر التمسك بحق العودة، لا عبر ما تسميه المبادرة العربية للسلام زوراً حلاً عادلاً.
الحفاظ على طزاجة فلسطين في ذاكرة أجيال ولد آباؤهم وربما أجدادهم في الشتات، رهان صعب، فرغم أن الشعب الفلسطيني يؤكد تعلقه بوطنه من خلال تعبيرات مختلفة، إلا أن تراجع العمل الفلسطيني، وشيوع ثقافة التيئيس وسيطرة تفكير واقعي مبسط وروح استهلاكية، حوّل فلسطين إلى شعار جميل للكلام أمام وسائل الإعلام. ليس الانتماء إلى فلسطين انتماءًا إلى قبيلة، ولا هو ذاكرة فولكلورية، فهذا الانتماء يحتاج إلى تجسيد نضالي في أجسام حزبية ومؤسسات للوصول إلى الفعالية والتأثير، وينبغي دائماً الموازنة بين الشعار التجريدي الخاص بالعدالة والحق، وبين المصالح الواقعية.
فلسطين هوية أخلاقية، فالجريمة الاستثنائية في التاريخ، التي لم تحظ بجزء بسيط من الاهتمام ورد الاعتبار الذي حظيت به المحرقة، التي دفع الشعب الفلسطيني ثمنها بالمحصلة، هذه الجريمة لا تحتاج إلى انتماء فلسطيني أو عربي بالضرورة للنضال ضد استمرارها، تحتاج إلى ميزان أخلاقي سليم وإلى حس عدالة إنساني. لا يتطلب الأمر مشروعاً قومياً عربياً لم يعد قائماً وتنسب إليه جميع الشرور، حتى أصبحت فلسطين بفضل بعض تمثلاته الرديئة فكرة منفرة، لدى أجيال جديدة من الشباب العرب، عدا قطاعات من الإسلاميين واليساريين. يتطلب الأمر حساً نقدياً وشجاعة فليست فلسطين مسؤولة عن الفظائع التي ارتكبت باسمها، وإذا كان غريباً ممن يتشاركون مع الفلسطينيين التاريخ والجغرافيا والثقافة أن يستقيلوا من اهتمامهم وتعاطفهم وانخراطهم في الدفاع عن عدالة القضية الفلسطينية، فإنه أكثر غرابة ممن يبدون حساسية عالية ضد الظلم أن يكونوا باردين اتجاه الجرائم اليومية والفكر والممارسات العنصرية وأن يخلقوا المبررات للتعامل مع إسرائيل كحقيقة موضوعية لا على الصعيد النظري، بل كطرف يجب إزالة حاجز العداء معه.
ثمة ضخ إعلامي هائل يريد التخلص من العبء الفلسطيني، وشق ألف طريق التفافي للوصول إلى عشيقة سرية اسمها إسرائيل، ضمن رؤية تصالحية مع الغرب الاستعماري. نخب تقدم نفسها كنموذج ومثال وتعد بالازدهار الاقتصادي والديمقراطية، وكأن هذه لا يمكن أن تتعزز إلا بالتسوية السلمية غير العادلة بالطبع.
62 عاماً وفلسطين في خطر أكبر، لحظة من التشوش وانعدام الرؤيا والطروحات الاعتباطية والانتحار الجماعي. فلسطين مهمة لأن حالها مقياس عافية الأمة، وفلسطين قضية كونية لأنها مؤشر على مستوى اختلال الموازين، النضال من أجل فلسطين جزء من مشروع نضالي أوسع ضد الرأسمالية المتوحشة والثمار الفجة للعولمة والأحادية القطبية، ضد سوء الفهم الذي تعاني منه جماعات بشرية عديدة، ضد التنميط والاستعلاء، وبوصلة وعي مطابق ومحور ثقافة مقاومة.