مطبات: تدخين لا يطاله المنع

التدخين مضرة والامتناع عنه مسرة، العبارة الأقدم في جهدنا الحكومي لإيقاف الموت القادم من بين أصابعنا، وأعتقد أنها العبارة التي زادت من عدد المدخنين في سورية، وأنا منهم، وكلما سمعتها زادتني إصراراً على التدخين، واستفزتني الطريقة التي كانت تخاطب فيها ولهي النفسي والجسدي لجرعة نيكوتين عاتية.

اليوم هو أول أيام تنفيذ مرسوم منع التدخين في الأماكن العامة، واليوم أكتب زاويتي دون سيكارة وسط مجموعة لا تدخن، وفي مكان نظيف من الدخان ومخلفاته، يبدو الأمر صعباً في بدايته، كأنما هي محاولة لترك التدخين، على الأقل امتثال بقية المدخنين للقانون يبعث على الرضا وقبول الأمر الواقع، ومع ذلك يسأل البعض عن مكان مخصص لإشعال عادتهم، هنا لا مكان للتدخين هكذا يجيب صاحب مقهى الإنترنت، والبعض يهز رأسه ويقول: لن يكون مصيره سوى التعديل كما حصل مع شقيقه قانون السير، سوف تكون هناك نافذة لاختراقه، المشرفون على التنفيذ أليسوا بشراً مثلنا، سوف نتفاهم، والبعض من هؤلاء سيغض الطرف ببعض الدلال.

لنخرج سوية من مشكلة التدخين، فالحديث في الأمر يثير في دمي الرغبة في الخروج إلى الشارع حيث يمكنني أن أدخن، لكنني أفكر بحال من سيقرؤون (قاسيون) دون مطبات، وقد يثير تأخري حفيظة الأستاذ جهاد فيؤجل نشرها إلى عدد آخر، نخرج إلى ما هو أكثر من موتنا بسيكارة تقودنا إلى سرطان بالرئة أو بالحنجرة، وفي أحسن حالات موتنا جلطة في القلب أو الدماغ.

ككل الذين يكتبون عن دمشق أفتتح بغمامتها السوداء، أكنت تأتيها من جنوبها أو شمالها، من جهاتها الأربع، من فوقها الأسود، من طائرة أو من جبلها قاسيون، أما من تحت فنحن لا نرى سوادها لكننا نحاكيه بحواسنا المتبقية، نسمعه في الضجيج الذي سيحولنا إلى مرضى نفسيين، مصابين بـ(باركنسون) أو أحد علل الفصام، نشمه بأنوفنا الملونة بالأسود، بعطاسنا الرمادي، بأمراض الصدر والرئة والتنفس، بأطفالنا الذين يزورون الطبيب ولا يشفون، نمسه بأصابعنا التي تمسح كل يوم طاولاتنا بأكمامنا التي كانت بيضاء، وأنامل من يكتبون أسماءهم على النوافذ، نتذوقه حين نمر بين السيارات، وأمام الإشارات، وفي الطريق المزدحمة إلى أعمالنا.. ثمة تدخين لا يطاله المنع والقانون.

الأمر الأكثر أهمية من موتنا فيما لو نظرنا إلى الأمر من بوابة الخسارات المادية، ومن وجهة نظر من يخطط لاقتصاد سوري يضبط الهدر، نعم يخسرنا التبغ الذي يقتلنا أكثر من 25 مليار ليرة سنوياً، من أدوية، وتهريب، ومشاف، وعلل، ووقت مهدور.. وأكفان.

التدخين يخسر الوطن المال والعيال، لذا أنا المدخن أول من سيمتثل لقرار وقانون المنع، مع أن الدولة لن تستفيد من ضبطي متلبساً بسيكارة أكثر من الحد الأدنى للمخالفة، كوني وكوننا في أغلبنا لسنا من مرتادي فنادق ومطاعم النجمات الخمس، ربما مقهى بفتحة سماوية بنسبة 70% يمنحنا حرية التدخين القاتل، ويذهب المدخنون السلبيون إلى أماكنهم النظيفة، ويموتون بيد غيرنا.. لكنني أتساءل من سيمنحني أنا المدخن قليلاً من الهواء النظيف، الماء النظيف، الخضراوات غير الملوثة بروثنا وروث المدخنين السلبيين، قليلاً من الهدوء بعد منتصف الليل دون مزامير وصراخ المنتصرين (لأنتر ميلان)، قليلاً من الصمت لحاجتي للوحدة لأسباب لا تمس الكتابة والإبداع، من سيمنحني صباحاً دمشقياً نظيفاً وخالياً من الكربون.

بالنيابة عن كل مدخني هذه المدينة التي لا أستطيع أن أوغل في حبها دون سيكارة، فأنا لا أتخيل مشواراً في حواريها دون دخان، كأس شاي في مطعم لغير المدخنين، قصيدة شعر دون نفث آه ممزوجة بالسم الطائر.. ومع ذلك سأمتثل، وبالنيابة عنهم سنمتثل، ونحترم القانون.. لكننا ننفث دخاناً لا يطاله المنع والقانون.

■ ع.دياب