القاعدة الجماهيرية والقاعدة الاجتماعية.. والتغيير

مع دخول ستينيات القرن العشرين، وبداية التراجع العام للحركة الثورية العالمية، عادت إلى الصدارة وبتصاعد مستمر قضية علاقة الأحزاب بالجماهير، وجدلية التأثير المتبادل بينهما على أرضية تطور الظرف الموضوعي. مع أن هذه القضية لقيت ما لقيته من النقاش والصراع الفكري  قبل ذلك بكثير، وتحديداً مع الانقسام البلشفي- المنشفي، أو اللينيني - المارتوفي داخل روسيا، وبين الأممية الشيوعية والأممية الثانية على مستوى أوروبا والعالم لاحقاً، لذلك فإن عودة هذا النقاش - الصراع للصدارة ليس مستغرباً، ولا غير متوقع خلال التراجع، فأهم سمات التراجع هي إعادة طرح كل شيء لنقاش «حر  وديمقراطي»! والتركيز على ما أثبتت الحياة خطأه في محاولة يائسة لإعادة اختراع العجلة، وذلك لتعميق التراجع وخلق الأزمات مع عدم إغفال بعض النوايا البريئة، ولكن ضيقة الأفق التي تصب في المصب نفسه في النهاية.

اليوم، ومع بداية تصاعد الحركة من جديد، ما زالت أزمات الماضي - وبقوة العطالة - تفعل فعلها هنا وهناك، فتعيد إلى الواجهة طروحات تعود إلى أكثر من مائة عام مدعية جدتها وحداثتها. فمع كل تحرك جماهيري جديد (اعتصام، مظاهرة، اضطراب..الخ)، يخرج علينا «مثقف» ما ليعلن موت الأحزاب والحركات السياسية وضرورة دفنها قبل أن تؤطر حركة الجماهير الحية والصادقة.. وذلك في فهم صوري شديد التسطيح للعلاقة بين الجماهير وأحزابها، وكأنهما في تضاد (خارجي وميكانيكي) أزلي. حيث الأحزاب تسعى لاهثة للقبض على الجماهير وتحديد مسارات تحركاتها، لا لشيء إلا لتبرر وجودها، (وتحديدا لتبرره لحضرة «المثقف» الذي لا يمكن للأحزاب أن تسير أي خطوة للأمام دون مباركته ورضاه التام). وبالمقابل، فالجماهير تسعى لإثبات جدارتها وإنسانيتها الحرة المنعتقة غير المنقادة وغير الملتزمة بأي إطار وبأي نظام. وبينهما يقف «المثقف» عراباً لنبذ الأدلجة والانسجام الفكري، عراباً للفوضى... حيث «الحركة كل شيء، والهدف لاشيء»، كما يزعم برنشتاين أحد أهم زعماء الأممية الثانية، في إنكار مطلق لدور الوعي في التأثير على الواقع، وفي تأليه مطلق للعامل الصدفي..

لعل غرامشي، واحد من أهم من نظروا لهذه العلاقة في «كراسات السجن»، إذ يصنف الناس الذين يسمون اعتباطاً، أو من منظور قومي؛ الجماهير، وفقاً لانتمائهم الطبقي إلى قاعدات اجتماعية للأحزاب المختلفة (الطبقية بطبيعتها). فلكل حزب قاعدته الاجتماعية، تلك القاعدة التي ينتصر لها خطه السياسي، وهي أوسع القواعد بالنسبة للأحزاب التقدمية وأضيقها للرجعية. فالقاعدة الاجتماعية لحزب شيوعي، هي جميع العمال والفلاحين في بلده، وبالتالي الأغلبية الساحقة من السكان، في حين أن القاعدة الجماهيرية لحزب هي مجموع مؤيديه، والتي تتضمن قاعدته التنظيمية. وهي – القاعدة التنظيمية - أصغر القواعد سعة وأكثرها انضباطاً وأهمها. هنا يأتي مفهوم الكتلة الحرجة اللينيني، ليتمم مفهوم الدور الوظيفي للحزب، حيث الكتلة الحرجة هي ذلك الكم النوعي من القاعدة التنظيمية القادر على مطابقة القاعدة الجماهيرية للحزب مع قاعدته الاجتماعية. حينها فقط، يستطيع الحزب القيام بالتغيير الذي نذر نفسه له. من هنا تصبح وظيفة الأحزاب بوصفها حركات منظمة وواعية، أن تلتقط حركة الجماهير في مستواها المطلبي، وتعمق هذا المستوى إلى أقصاه (الإضراب)، وتعمل طيلة الوقت على نقله إلى مستواه السياسي والفكري، وحتى الأيديولوجي، في سعي دائم لتحقيق المطابقة بين القاعدة الجماهيرية والقاعدة الاجتماعية كمقدمة وشرط ضروري لا بديل عنه للتغيير المطلوب. وليس مخزياً فحسب أن تقف الحركات السياسية إزاء حركة الجماهير مصفقةً تذرف دموع التأثر والحسرة والنقد الذاتي، بل هو خيانة موصوفة لقاعدتها الاجتماعية ولهدفها البعيد. على الأحزاب أن تطالب الجماهير دائماً بما هو أكثر وأن تقف مع الجماهير وأمامها بخطوة واحدة لا أمامها بمائة خطوة كما يفعل اليسار الطفولي، ولا خلفها كما يريد المهزومون المستسلمون لعظمة الحركة وعدم فهمهم لقوانينها.

هناك من يستند في تقديسه لحركة الجماهير، إلى ثورة الاتصالات الحديثة التي سهلت إلى حد بعيد إمكانية التواصل والتنسيق بين شباب «متحمسين»، ويستنتج تبعا لذلك أن التنظيم الجديد الشبكي أو اللاتنظيم، قادر على تحمل أعباء وظيفة الأحزاب التقليدية، وهنا علينا أن نتذكر أن الآلة البخارية وسكك الحديد التي خلقت بروليتاريا وطنية وعالمية إلى حد ما، لم تصنع وحدها الثورات البرجوازية، بل صنعتها أحزاب البرجوازية الصاعدة مستفيدة كل الاستفادة من الأدوات الجديدة، وكذلك فإن كهربة البلاد في الاتحاد السوفييتي، إذ كانت القاعدة المادية التكنيكية لبناء الاشتراكية، فإن توقف هذا البناء الاشتراكي وانقطاعه لم يحدث بسبب انقطاع الكهرباء  وإنما كانقطاع تاريخي سببه تراجع الحزب الشيوعي السوفييتي عن أداء مهمته التاريخية منذ المؤتمر العشرين له، أي بعد ستالين، آخر قائد بلشفي حقيقي في الاتحاد السوفيتي مباشرة .. وتباعاً يكون على الأحزاب الشيوعية في العالم أن تستفيد إلى أقصى مدى ممكن من التطور التكنولوجي الهائل وهي وريثته الشرعية الحقيقية، وأن تفتح الباب أمام إمكانيات خلق أشكال تنظيمية أكثر حركيةً وتطوراً، لا بأن تخلخل انضباطها بل بأن تزيده وتدعمه وتوجهه، فالمولد الكهربائي لا ينتج الطاقة من ذاته وإنما من تنظيمه الحديدي والصارم لحركة الالكترونات.. على الحزب الشيوعي أن يكون مولداً اجتماعياً، مولداً للطاقة الاجتماعية الخلاقة..