بين قوسين: حليب وكوكا كولا
كأن قافلة «سفينة الحريّة» جريمة مستغربة في سجّل إسرائيل الدموي، فهي لن تكون الأخيرة بالطبع، لكنها هذه المرة تأخذ طابعاً مختلفاً بتورطها المباشر مع دولٍ أخرى غير عربية. تركيا الصاعدة بقوة في المنطقة، صنعت الحدث على هذا النحو، إلى الدرجة التي أحرجت أنظمة عربية كانت تساهم بشكل علني في حصار غزة، وهاهي مضطرة تفتح معبر رفح. مظاهرات واعتصامات واحتجاجات اعتادتها إسرائيل كنوع من الحالة الصوتية. ستبلع هذه المرّة كبسولة أكبر للتخلص من هذا الصداع، ثم تعود إلى مواقعها في مواجهة العالم. في الواقع فإن مأثرة "سفينة الحرية" أماطت اللثام ليس عن جريمة إسرائيلية مستمرة، بل عن أنظمة عربية تواطأت في هذا الموت البطيء لمسجوني غزة، وضمير عالمي نائم في وضح النهار عن ممارسات آخر نظام عنصري على الخريطة.
المسألة ليست في حماقات نتنياهو أو باراك، بل في بنية نظام عنصري، يتساوى فيه اليسار واليمين. ننتظر أن تذهب حكومة اليمين، فتصفعنا حكومة اليسار، في دائرة عبثية من الانتظار، فيما تتحول القدس باضطراد إلى مجسّم تذكاري على الجدران.
الجمهور المعتصم بحزن تراجيدي على ضوء الشموع هو نفسه من حمل ناصيف زيتون على الحدود السورية اللبنانية، على الأكتاف لتتويجه بطلاً قومياً بالعتابا والميجانا، وهو نفسه من يجلس كالمنوّم هذه الأيام أمام شاشات مونديال العالم، بالحماسة نفسها، والصخب نفسه، سينسى حليب فلسطين، ويتجرّع الكوكا كولا على جدران ملاعب كرة القدم، على هدي حكمة امرئ القيس «اليوم خمر وغداً أمر». جمهور ملطّخ بقمصان فرق البرازيل وإسبانيا وألمانيا. جمهور عاطل عن العمل، يبتهج نهاية الأسبوع بأقصى طاقته على الرقص في إحدى حانات باب توما.
عفواً، أقصد اسمحوا لنا بأن نقول «سفينة الحرية» صناعة آخرين، ولا يكفي أن نخطف المانشيت الصحفي بمزاج تعبوي، كي نكون في قلب الحدث.
لنقل بأن إسرائيل تهرب إلى الأمام، وهذه واقعة، ولذلك كان عليها أن تصنع بشكلٍ ما، قطيعة مع تركيا، كي ترتاح من عبء المفاوضات غير المباشرة، لأنها في الواقع، ليس لديها ما تقدمه للفلسطينيين سوى الرصاص والجدران العازلة والقصف الجوي، ومساحة أرض تكفي للمقابر وحسب.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.