طريق الاستغلال الذي يبدأ بركلة كرة
كان من أهم التطورات الكيفية في العقود المنصرمة؛ انقلاب كرة القدم على منظومتها المُؤسسة وتحولها إلى لعبة الفقراء الرئيسية، وتبلورها في كثير من الأحيان كمعادل أساسي من معادلات ثورات التحرر الوطني والهوية القومية.
فاللعبة التي يعود انتشارها بجذوره إلى الاستعمار الأوروبي، وتحديداً البريطاني، وإلى فترة التطور التاريخي للرأسمالية ودخولها مرحلة الامبريالية، كانت شكلاً من أشكال الوسائل المستخدمة وظيفياً لتمدين الشعوب المستعمرة، وتعميم القيم الرأسمالية والمدنية الغربية، وعلى رأسها الليبرالية.
إلا أنها، وبالرغم من خروجها كلعبة من بوتقة هذا المنظور، لكنها بقيت من حيث السياسات والهيكلية الناظمة وآليات التعامل القيمي؛ شكلاً متطوراً لوظيفة الفكر الرأسمالي، ومجالاً غنياً لنمو وتشكل الكارتلات الاحتكارية، وسيادة رأس المال ومبادئ الربح الفاحش، وفي كثير من الأحيان نوعاً من السيطرة غير المباشرة على الشعوب والدول.
والمثال الحي مؤسسة الاتحاد الدولي لكرة القدم «الفيفا» وتضم 207 أعضاء، والتي عملت منذ تأسيسها عام 1926 لتصير المرجع الأكبر المتحكم والمهيمن على مقاليد اللعبة وكل متعلقاتها، فارضة نفسها ككارتال احتكاري عابر للقوميات، متسلط من خلال تنظيم الحدث الكروي العالمي الأبرز «مونديال كأس العالم»، والتي تشير الإحصاءات السابقة إلى أن قيمة أرباح الفيفا الصافية من هذا الحدث فقط تتجاوز بلايين الدولارات، تجنيها عبر عائدات بيع تذاكر المباريات، وبيع الحقوق الحصرية للشركات الراعية (مستلزمات كروية وتجهيزات ملاعب والنقل التلفزيوني المباشر للمباريات) والتي تمثل السيطرة الاحتكارية الثانية على مجريات هذا الحدث، هذا ومؤسسة «الفيفا» مسجلة في سويسرا باعتبارها «شركة لا ربحية» مما يجعل نسبة الضرائب المفروضة على أرباحها لا تتجاوز 4 %. ناهيك عن كل ما يشاع من صفقات مشبوهة وأخرى وهمية وشراء ذمم وفرض رؤية وتوجهات على الاتحادات الوطنية إضافة للفساد الإداري
وهذا العام في مونديال جنوب أفريقيا لم تتغير القواعد والشروط وأن تغيرت وجهة الحدث ومكانه. فهذه المرة الأولى التي تستضيف فيها القارة السوداء كأس العالم لكرة القدم، ورغم كل ما سمعناه من بهرجة إعلامية وتحليلات خطابية كالقول بأن الحدث سيساعد على «إعادة بناء أمة» و«بأن هذه المنافسة مناسبة للانفتاح على العالم الخارجي، وفرصة ثمينة للتنمية الاقتصادية وخلق للتقارب مع الديمقراطيات الغربية» أو «أن المؤسسات الرياضية تساعد على نماء الديمقراطية». لكننا يجب أن ندرس ظروف الواقع وسياقات الموضوع. فدولة كجنوب أفريقيا يعيش أكثر من نصف سكانها بأقل من دولار واحد في اليوم، ناهيك عن مخلفات نظام «الأبارتيد» العنصري وتفشي الجهل والبطالة والأمراض، والأهم غياب البنية التحتية الكروية المجهزة فيها، ستواجه هذا الحدث الجلل بحصة بسيطة من عائدات تذاكر المونديال فقط، بينما يقع عليها بالغالب تجهيز كل الظروف الأمنية والخدمية للاستضافة، وهو ما سيرتب حكماً أعباء وتوجهاً لحركة الأعمار والتحديث باتجاه المرافق الكروية على حساب المرافق الخدمية الأساسية للمجتمع الإفريقي ككل، وبالمقابل سيكون المونديال فرصة لخلق ألاف فرص العمل وإنعاش الاقتصاد الوطني، لكن كل ذلك (وقتيّ ومؤقت) سيزول بزوال الأسباب الموجبة، وقد يقود بعد حين لكارثة اقتصادية تضاف لمظاهره السلبية السياسية والاجتماعية والثقافية على سكان البلاد، وهنا يجب التوقف عند توقعات حصيلة هذا المونديال حيث يقدر أن يصل صافي ربح الفيفا إلى «3،2 بليون دولار» من إيرادات وسائل الإعلام والتسويق والرعاية، وهو ما يفوق بأضعاف ما يقدر أن يجلبه المونديال على جنوب إفريقيا.
كل هذا دون أن نصل إلى موضوع العنصر البشري وصفقات شراء اللاعبين وشروطها، والتي باتت تخلق الآن تغيراً اجتماعياً هائلاً، وغير طبيعي في بعض المجتمعات حيث ينتقل اللاعبون من قاع المجتمع وفقره إلى قمته الاجتماعية في غضون سنوات قليلة، وخير مثال نجم المونديال الحالي الأرجنتيني «ليونيل ميسي» فهذا المليونير الآن هو ابن لأب كان عاملاً في أحد المصانع، وأم كانت عاملة نظافة.، وهو ليس الشاهد الوحيد على هذا الجنون، ولكنه قد يكون مثالاً صارخاً على دور كرة القدم وفكر مؤسساتها الراعية في مجال وطريقة توزيع الثروات.