خالد الجرماني كما أعرفه
منذ عشرة أعوام أو يزيد ومن لقائنا الأول عرفته لا يحب الصخب، رغم سهراتنا الصاخبة في شقة ضيقة في ضاحية قدسيا. توسمت فيه حينها كل معاني النقاء، فهو واحد من كثر في هذه البلاد تمكن من نشر فنه وخلق فضاء موسيقي مبدع. يعرف العود منذ صغره ويعزف ألحانه الخالدة باقتدار وفطنة. منذ سنوات لم أعد أراه، ولكن دعوته لي لحضور حفله الموسيقي مع فرقته في دار الأسد للثقافة كانت كأنها لقيا في عام قحط أو ربما أكثر.
سألته حينها مداعبا عما يريده الموسيقي من هذا العالم وما جدوى الموسيقى أيضا...!! استفزته الأسئلة فباح كما كنا نبوح لبعضنا البعض في تلك الشقة الحالمة شعرا و موسيقى.. أذكر مما قاله أن أبسط الآلات الموسيقية هي مزمار القصب، وهي برغم ذلك أعقدها في الأثر على المتلقي. فهي تجعل من الفقر مادة للسمو ومن الغنى مادة للبكاء، وربما التندر أيضا... أو بشكل أبسط: إننا لا نعي تماما لماذا ينفخ الرعاة في مزاميرهم، أو لماذا تنقر الدفوف في الموالد. وزاد: إن هناك سحرا موسيقيا يبدعه قرّاء المصاحف ومنشدو الأدوار الدينية في تنقلهم بين المقامات.. فمن يجعلنا ننصت للعالم بحب أكثر من الموسيقى...
خالد الجرماني فنان مبدع، وهذا ما لم أقله لأحد، لأن كل من يعرفه يعي ما أعني.. فهو ابن مدينة السويداء التي أعطت الكثير من أبنائها المبدعين الذين يحبون الحياة ويعشقونها كأنها خالدة... وهي كذلك!!
يشتغل خالد منذ مدة ليست بالقصيرة على مشروعه الخاص: (العازف المؤلف)، وهذا ما يدفعه باستمرار للبحث عن شركاء له من ضفة المتوسط الأخرى فمن فرنسا تشارك مع عازف الغيتار سيرج تيسو غاي.. وفي أمسيته الأخيرة في دمشق تشارك مع شقيقه عازف الإيقاع مهند، ومع عازف الكلارنيت الفرنسي روفائيل فويار لتقديم أمسية موسيقية بعنوان: «من الغرب إلى الشرق الصوفي.. من دمشق إلى ليون..»، فكان لكل منهم ابداعه من جهة تقانات العزف، أو من جهة التأليف الموسيقي للمعزوفات التي قدمت وكانت إحدى عشرة معزوفة: الثرى، زفير، رحيل، نافورة، قافلة، رقصة الحصان، حلاج،صداقة، أفـ تك، تحت الرماد، عاصفة... استغرقت منهم ساعة من الزمن، ذهب الحضور خلالها في متاهات من الوجد الصوفي، كما عادوا خلالها إلى حاضرة الموسيقى بمعناها الإنساني الراقي، وأظنهم ارتاحوا خلالها من صخب كثير من الغناء والموسيقى المعاصرين.
يؤمن خالد الجرماني بأن هناك ما يكفي من المستمعين الجيدين للموسيقى التي يؤلفها، فهو يراهن على ذائقة شفافة لن تنتهي. و يعمل بجد على الخصوصية العربية والشرقية للموسيقى في منطقتنا.. مع تطلعات جميلة لنشر ما يؤلف مع مشاركيه في أرجاء الدنيا، وذلك بخلق مزيج إنساني من الموسيقى وجعلها منجزاً عالمياً باقتدار وبحرفية عالية.. ولأنه يعرف مقدار الإهمال الذي تمارسه مؤسساتنا الوطنية بحقه، وحق كثير من المبدعين، فقد استعان بدعم «المركز الثقافي الفرنسي» في دمشق ليتمم جولة فرقته «باب السلام» في عدد من المدن السورية، فليس أقل من أن تقدم وزارة الثقافة، مثلاَ، دعما يطلبه مبدع ما، بدلا من دفعه لطرق أبواب المراكز الثقافية الأجنبية في بلدنا، فهل من مجيب؟؟
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.