مطبات: أمهات ليوم واحد

كعادته، ينهض فينيق من نومه الشتوي، يخلع عنه الطين والبرد من شهور الغور في طمي البلاد، كعادته يستيقظ، كعادته يذكرنا بالربيع الذي يمارس فينا حياة النهوض، فينيق الذي يسهر على إفاقتنا من غفوة البلادة.

أما نحن، فكعادتنا نروح مع تحرره، ونختال من دفء يخلع عنا أردية مستعارة، وأرواح غلفها الدخان المتصاعد من مدافئ ساكنة كالموت، وحارّة كجهنم، ونهيم من نسمة مسائية تقذف ما بقي من شعرنا على وجهنا المحتقن، وهواء يدور في صدرنا الذي يتسع حد التنفس.

فينيق الذي لا يحب الشتاء، يستيقظ مرتاحاً من سرير الأرض المبللة، يبحث عن أشباهه، عن كائنات قادرات على الانبعاث من جديد، ولودات حرائر، كائنات تمنح دون أن تدري، فلا يجد سوى نساء الأرض، الثدييات الناطقة، كعاملات النحل، كإناث البجع التي تشق صدورها على الصخر لتطعم جوعاها، صائدات كلبوات تركن الذكور حراساً على الغابة، كالسلمون الذي يشق الماء عكس التيار من عذب إلى مالح إلى عذب كيما تضع بيوض الحياة لدورة جديدة.

الليلة يتهاوى الشتاء، تخذله الغيوم السوداء، والجبال المنتظرة، ويتسلل الدفء المتواري من برد ومطر وريح، الليلة يصيح الفينيق بكل أشباهه استيقظت العطايا والشمس والخصوبة، أمهات لا ينتظرن الرجال على السرائر، ولا حمام يهدل من حمى البلوغ، ولا قطط تموء من ألم النشوة، ولا ذباب يعلو على بعضه كي يرث القذارة.

الليلة خصوبة من أجل الخصوبة، ابتهالات دون أيد خشنة، صهوات بيضاء دون ذعر المطارحة الثنائية، انفراد بالخلق والعطاء، عطاء دون رجال وذكور وملوك ومثيرات مصطنعة، الليلة إعلان عن ربوبية واحدة للأم العامرة بشوق إلى الحمل والاستمرار، بلوغ الوله دون وصال، إنتاش بغبار الطلع تحمله الريح فقط، استيقاظ دون مداعبة، ومتعة لا منتهى لها.

لكننا الليلة نرى أيضاً بعين ليست أسطورية، بعين ترى الأمر على حاله دون حلم، ودون غرق في الفكرة، ودون أن يلهينا الفينيق اليقظ عما صنعنا بأشباهه...

ناديا المطلقة مع ابنتين، الموظفة التي تمسك بخوف عفتها من نظرات الجنس والجوع، الأم التي تدرس النشيد الوطني، وجدول الضرب، والممانعة ضد الشرقي الذي لم تمنعه شهاداته ومبادئه الكاذبة عن الحرية والمساواة من ضربها بكفه الخشنة، العاشقة الخائفة من رجل آخر، الجائعة المحرومة على سرير فوضوي وقماش حار.

مريم الخمسينية على الرصيف، تبيع ما يأتي ببعض المال لأيتام يتضورون من الوحدة، على الرصيف يمر الرجال الذكور، الرجال المتكالبون على أية قطعة لحم مثيرة، المنافسون من الفقراء، المتبرجات اللواتي يجمعن المال من غنج ودلال....ومريم البائعة والأم والرهينة.

الخبز المشروح، اللبن المصفى، التين اليابس، قمر الدين المغلف برائحة قديمة، أم حسن عجوز على قارعة شارع الشعلان تمارس قرويتها، رائحة من زمن أدركناه، ويعتقد الأبناء أنهم من (فلكلور) قديم، لكنها رائحة أرحام حملتنا، لحم أمهاتنا المصنوع هناك من تراب القرية ورائحتها.

 ثمة من تصل البيت لتسقط على أقرب أريكة من الباب، العاملة التي أصابها (الديسك)، ولوت عنقها (المناقير)، وأقعدتها الدوالي، خلف الآلة التي تنتج اللباس والبلاستيك، المطابع، الإسفنج، الأدوية، الأحذية...ثم ترضع حليب الحياة لوليد عائد من حضانته.

المحامية، الشاعرة، المدافعة عن حقوق الإنسان، المدرسة والعاملة، المشردة والمتسولة، المطالبة بتغيير قانون الأحوال الشخصية، الصحفية، العابثة على الشبكة العنكبوتية، اللعوب المراوغة، المجرمة والقاتلة، الذبيحة وضحية الشرف، المغتصبة و قتيلة السفاح، القاصر والمراهقة، الطفلة والرضيعة.. أمهات صنعناهن من ذكورتنا المتعالية، من خديعتنا لهن بالحرية والمساواة، من عبثنا بأنوثتهن برذيلة العمل، من حقدنا عليها كآلهة علينا لآلاف السنين.. فذبحناها بيدها.

كل عام وأنت أمنا.. يا شبيهة فينيق والسمندل.. يا عارنا.

 ■ عبد الرزاق دياب