جهاد أسعد محمد جهاد أسعد محمد

بين قوسين: الضفّة الأخرى..

قد لا يوجد مشرقي واحد لم تدغدغ أحلامه في فترة ما من حياته فكرة الهجرة الدائمة، أو السفر إلى الغرب للعمل أو للدراسة أو للتميز الإبداعي، دفعت تاريخياً إلى ذلك، وتدفع الكثيرين منهم اليوم، رغبة صامتة ومكبوتة بالهرب من بطش وجور واستبداد حكام الشرق ومن تخلف مجتمعاته وتزمتّها وقلّة الفرص والحريات فيها، والتهميش الممنهج للكفاءات غير المنضوية تحت عباءة السلطة الذي ما فتئت مؤسساتها تتبعه حفاظاً على وجودها واستمرارها، وكثيراً ما تكبر هذه الأحلام عند البعض وخصوصاً الشباب المتعلمين، وتتضخم بشكل مرضي، حتى تصبح هاجساً دائماً لديهم، فتقلّ فاعليتهم الذاتية وتتعطّل حياتهم، وقد يستقيلون من الواقع بشكل شبه كلّيّ تماهياً مع الحلم الكبير العصي عن التحقيق غالباً، الذي رهنوا أنفسهم وطموحاتهم ومشاريعهم وانتماءهم له.

وإذا كان ذلك يعني اغتراباً مزمناً وإحباطاً متزايداً لدى أصحاب الكفاءات والمهارات العلمية والمهنية، يتمظهر على صورة لا مبالاة متفاقمة وسلبية شديدة تجاه مجمل قضايا المجتمع والكيان الوطني الذي يحملون هويته، والتي أسست لها بداية السلطات الاستبدادية المشرقية برعاية إمبريالية خفية من خلال الإقصاء والتهميش والقمع، فإنه لدى المبدعين من فنانين وأدباء، يعني أكثر وأخطر من ذلك بكثير، إذ يتجلى الحلم المكسور في مُنجزَهم الإبداعي احتقاراً لمجتمعاتهم وانسلاخاً كاملاً عنها وهذياناً ذاتياً وتيهاً وتخبّطاً في الزمان والمكان، ومحاباة مطلقة -غير مُدرك جذرها وعمقها عند المحابي في كثير من الأمثلة والنماذج-، لرؤية وتقييم الغرب للشرق و«مشكلاته البنيوية»، و«طوائفه» و«مذاهبه» و«عشائره» (وليس شعوبه)، قد تصل أحياناً -على غير وعي أيضاً لدى البعض-، حدّ الخيانة الوطنية.

فذلك «المثقف» الذي ما انفك يحلم بالهجرة إلى الضفة الأخرى من المتوسط أو إلى ما وراء البحار الغربية، وتعلّم تعزيزاً للحلم وتهيؤاً ولهاثاً وراء تحقيقه ما استطاع إليه سبيلاً من اللغات والعادات و«البروتوكولات» اللاتينية والأنغلوساكسونية والاسكندنافية، ولم يفوّت في هذا الإطار فرصة إلا وحاول ويحاول استغلالها من طرق مستمر لأبواب السفارات والمراكز الثقافية، إلى مصادقة ووضع الذات والإمكانات والوقت بدونية وذلّ في خدمة السياح والطلاب «الشقر» الذين يزورون الشرق للاطلاع على عوالم «ألف ليلة وليلة»، أو لتعلم اللغة العربية دون التأكد من مراميهم الحقيقية، إلى فتح خطوط اتصال مع المنظمات الحكومية وغير الحكومية، إلى السعي للاشتراك في مهرجانات وتظاهرات أورو- أمريكية أدبية وفنية غير محبّذ وجود كثير من العرب فيها، إلى مراسلة الجامعات والجهات المدنية العابرة للحدود، إلى المساهمة في النشاطات الأنغلو والفرانكوفونية..إلخ..، هذا «المثقف» الذي يقبع جسده في بلاده على غير إرادته، وتهيم روحه وأحلامه وأفكاره في بلاد أخرى، يصبح عبئاً خالصاً على مجتمعه وخاصرة رخوة فيه، ويصبح في المحصّلة هو في ضفة، والناس في ضفة.. أحلامه الفردية في ضفة، وآمال وتطلعات وهموم وآلام ومصالح بقية أبناء جلدته في ضفة أخرى..

ولعل الاطلاع على الكثير مما يُكتَب ويُرسَم ويُنحَت ويؤدَّى ويُصوَّر على الساحتين الأدبية والفنية اليوم، أو الاستماع إلى مناقشات أو سجالات هؤلاء فيما بينهم، أو مع سواهم، يُظهر عمق هذه المشكلة وخطورتها، ويبيّن مستوى الشعور بالدونية والانبهار بالغرب لدرجة الانسحاق، والتهتك الوطني والإنساني والقيمي والروحي، وحتى الإبداعي، الذي أصاب الكثيرين من المتمسكين بأوهام «الضفة الأخرى» في الصميم.

لاشك أن الغرب، الغرب الرأسمالي، الذي تربت معظم التوتاليتاريات المشرقية في أروقة أجهزته السرية وما برحت تذعن لأوامره وأوامرها، يسعى دائماً لاستقطاب نوعيات محددة من المبدعين و«المثقفين» من شتى أنحاء العالم، وخصوصاً من الشرق، سواء طلبوا السفر أو اللجوء أو الهجرة، أم لا، ولكنه لا يقول «لا» نهائية لأي منهم، ليبقي الجميع في حالة أمل وترقّب واستلاب وتقديم المزيد من الطاعة «الإبداعية» المبينة في أوراق الاعتماد المتجددة، وهذه في الجوهر حالة ابتزاز واستبداد إنساني لا سابق لها في التاريخ..

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.