مطبات: عارياًً يموت..

لن أذهب إلى أمي هذا المساء، ولن أتابع مباراة كرة قدم مشفرة، لن أكتب خبراً صحفياً، سأترك ابني (حازم) دون قطعة شوكولا، ولن أرضخ لرغبة زوجتي في عدم النوم على الأريكة القاسية.. سأذهب فقط إلى قلبي الشاعر الذي تركته على الرف منذ أن ابتلاني الله بمهنة الصحافة.

ما تخليت عنه قد يبدو لكم سخيفاً، لكنها هكذا حياتي، تمر بين هذه المفردات الكبيرة، أمي، والكتابة، وابني، وعائلتي، فمنذ سنوات بعيدة قررت لأحيا أن أبتعد عن ملذاتي الذكرية، الشراب، الرفقة المتقولة، متعة النظر إلى امرأة جميلة وغبية، العودة إلى البيت عندما تنام حارتي، النوم عند الإعياء حتى الثمالة. لكنني لا أعني عودتي إلى ملذاتي الذكرية هذا المساء، فقط سأرمي رأسي بعقله المصدوم على قارعة الشرود، سأذهب إلى كتب رميتها على الرف لتكمل صفوف أخواتها، مع أنني بين وقت وآخر أُخرج زفرة طويلة من قلبي لأجلها.. آه كيف قطعتني أيتها الأفكار إلى عشرين رجلاً. أعرف أنني أطلت في داخلي، لكنه الموت المفاجئ، موت من نوع مختلف، وموت منْ، الفقير، المشاكس، العقل الذي لا ينقاد إلى مسلمات العوام والغوغاء، موت رجل بقامة نصر حامد أبو زيد، لقد أدخلني إلى سبات هائج، رغم أننا قد نرغب عن بعض ما فيه، أو نخشى أن نفعل ما يفعل لارتعاشنا، أو وجلنا، لكنه الموت الأكثر وخزاً، موت المبدع.

نشبه الرجل في منبتنا، في فشلنا عندما نختار أن نكون كالقادرين، نتعثر، وحتى من هم منا ويشبهوننا يرون في طموحنا حراماً، ورغبتنا في تحريرهم كفراً، نشبهه في تخبطه ليكون، وقد نشبهه في موتنا بمرض لا تفسير له.

لن أمارس استذكار ما كتب وصرّح، ولن أستعير لغته الصارمة في انتقاد منتقديه، لكنني أستكين في سباتي، لقسوة الشعور بالظلم الذي حاق به، لا أمر أقسى من أن تسحب رأس رجل عنوة - وباسم من لا تملك حق القرار عنه- من حضن من يحب، لا أمر أقسى من أن تخلع على الآخرين تهمة عدم الإيمان، فالقلب هو البئر الكبيرة والعميقة التي لا قرار لها، ولا دراية، القلب سر الإنسان الذي لا شيفرة له، ولا رقم سري، القلب هو الذي يأخذنا وحده إلى الله، والموت.

نصر حامد أبو زيد مات، بالغموض نفسه، القسوة، الوحدة، فيروس لم يحدده أحد، موت يشبه الغربة والإقصاء، كأنه يطرد من جديد، ربما هذه المرة إلى تراب الوطن، وهذا فيه بعض العزاء، موته مختلف كما حياته، سيهبط بالوجه نفسه الذي قلما أدرك الفرح، ولم تستطع كل نكات مصر أن ترسم على وجهه الأسمر طيف ابتسامة، فالفقر، والقسوة، والظلم لا يرسمان ملامح الحياة، فقط حزن على قدر مساحة مصر، ودموع بطول النيل وغزارته عندما يحين الفيضان.

عندما يموتون، أو يركنون في دور العجزة، وبعضهم يختفي عن الضوء إلى عزلته، تهيم الأسئلة الكبرى في روحي، ألهذا الحد صارت القامات نكرات لا تعرّف؟ من أوصلنا إلى الزمن الذي يصبح فيه الكاتب والشاعر أدنى من أميّ بسيارة فاخرة، أين ذهبت كل النقابات والاتحادات التي تملأ العالم صراخاً لموت كهذا.. الأدهى أن أمثال (نصر) لن تشارك الاتحادات حتى في شراء كفن لهم، رئيس اتحاد الكتاب المصريين أعلن ذلك، والسبب أن نصر ليس عضواً في الاتحاد، أية قوانين تلك التي تمنع القامات من الموت بكفن، عراة عاشوا، وعراة يموتون.

مات نصر حامد أبو زيد يوم الاثنين، وها أنذا يوم الأربعاء، أكتب زاويتي المعتادة، أعتذر من روحك، من موتك، سنذهب إلى حياتنا مثلما كنت تفعل، وسنحب أولادنا، زوجاتنا، أمهاتنا.. لكننا بالتأكيد لن نمتلك شجاعتك في العري، في موتك السري.