بين قوسين: ابن رشد آخر

كان على نصر حامد أبو زيد أن يموت منفياً، وإن لفظ أنفاسه الأخيرة في أحد المسشفيات المصرية، كي تكتمل الفضيحة. لم يصمد قلب الرجل أمام الأهوال التي كابدها خلال حياته القصيرة. لقد جفّ الأوكسجين الاصطناعي في رئتيه أخيراً، إذ لطالما عومل- كواحد من المارقين-  الذين يستحقون الجلد على طريقة محاكم التفتيش في القرون الوسطى. حمل وزر الإلحاد، لمجرد اشتغاله في التأويل. لقد دخل منطقة الألغام إذاً، وكان لابدّ أن ينفجر به لغم مدفون تحت الأرض الهشة للتفكير، في بلاد لم تتردد في محاكمة طه حسين، ونجيب محفوظ، وفرج فودة، وقائمة طويلة من التنويريين. هذا ما جرى لمثقف إسلامي تنويري، فما بالكم بما ينتظر مثقف من الضفة الأخرى؟

جردة حساب عجلى لعناوين أبحاثه تكفي لتكفير الرجل، أليس نصر حامد أبو زيد هو صاحب «التفكير في زمن التكفير»، و«الخطاب والتأويل»، و«من الحجاب إلى النقاب»، و«نقد الخطاب الديني»؟ ينبغي إذاً، أن ينتظر العقاب لا الثواب، في أمة مشغولة بالفتاوى، وتعيش منذ قرون «ذهنية التحريم» على أصولها.

سنقول: ما أحوجنا إلى أمثال هذا المفكر الذي حاول أن يحفر نفقاً في ظلام العقل العربي، لكننا نكتشف أن عجلة التفكير العربي توقفت منذ عقودٍ طويلة، أليس نحن من أحرق كتب ابن رشد والحلاج؟ لهذا السبب سعى أبو زيد لفضح «ثقافة الخوف» وتفكيك عراها المتينة، ليس من موقع المتفرّج، إذ أنه خاض سجالات ساخنة، وأعاد إلى الجدل ألقه، وخاض في محاكمة أسئلة لطالما بقيت في باب المحرّم، ولهذا السبب على وجه التحديد، كان عليه أن يدفع الثمن.

قدر المفكر العربي أن يعيش منفياً عن أفكاره ووطنه، وأن يعيش عزلة المنبوذ، ألم يصفه بعضهم بعبارة «أحد عتاة العلمانية» على اعتبار العلمانية شبهة موصوفة.

هكذا اختار منفاه الأوروبي، قبل عقد ونصف، كي يكمل مشروعه التأويلي باطمئنان أكبر، لكن حملات المطاردة والمنع والتكفير، لم توفّره من القاهرة إلى الكويت، ولعل محنته اكتملت بتوقيت رحيله المفجع، الذي واكب النفير العربي الشامل لحمّى المونديال!  

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.