محمد المطرود محمد المطرود

وحيداً يا أبي!!

أبي يعقد قرانه على الريح، وكانت الريح تصطاد أبي في ذاكرته ومخيلته الخصبة،  وكان كلما حملنا إلى السهل نحن أولاده، أخذنا فؤوسنا المسننة جيداً لنحتطب الشوك هناك في السهل الذي أيضاً لعبت به الريح وفعلت فعلتها به، إلا أننا لم نكن إلا راضين ومطمئنين إلا أن أباً مثل أبي بجرأته ووحشيته في الحب،  سيقودنا أبداً إلى الكلام السعيد في الحكاية غير المنتهية، بصراحة لا أشك مطلقاً أن الكلام هنا الآن، في هذه اللحظة العصيبة من تاريخي الشخصي الهش، يختلف عن مجرى الحكاية والسرد الذي بنيت عليه، مثلا لم ينتصر الخروف على الذئب،  والذئب لم يرحم الخروف، عندما مثل بجسده الغض، والرجل الذي التقى أبي ورأى شحوب وجهي ، وتغضن كفي من عمل أزاوله فنصحه أن عد به إلى البيت، لا حيلة لهذا الفتى مع الريح وسهلها، كان الرجل أيضا يصطحب ابنه إلى حيث أنا ذاهب وكان أبي أعلم بذلك مني، وكنت أفرح إذ أتوهم أن الشمس هناك أجمل، وان أصدقائي كثر وينتظرون بكل مايحملون من ضغينة تجاه آبائهم القساة، الموت هنا مجازي، رجل هو في حياتك، وامرأة تواطأت معه، وإخوة يشبهون إخوة يوسف لكنك لست يوسف لترأف بهم، وأبوك ليس يعقوب ليشفع لهم عند يوسف بن يعقوب ولده وهو أعمى الآن ويتحسس عطر ابنه النبي، أحمل فأسي وأهوي بها على شجيرة الشوك التي تعلمت قتلها، فأرى الدم ينز منها، وأهوي ثانية لأرى تدفق اللحم السائل أمامي فلا أسأل، وهل علي أن أسأل كلما قتلت أحدها، علمني أن أفعل، والعادة أني أثق بكل مايقوله هذا الرجل الذي تربطني به علاقة بيولوجية، ومن عادتي أن أتشبه بالأنبياء ليس تديناً وإنما حملاً لصخرة ينوء ظهري بحملها، فلا أجد فكاكا، من أن أعزي نفسي بهم، وأعود إليهم كلما ضاقت الدائرة، حتى أني صرت أصلي صلوات مختلفة، وكثيراً ما يتهيأ لي أن بعض البشر الذين أراهم ماهم إلا ملائكة، وربما قلت في سري هي المكافأة، وهي اليد ترعاك، ولن تموت وأن تسارعت نبضات قلبك واصفرت الحياة من حولك، متحولة إلى الكابي اللون الذي طالما يتحدث عنه من يزعمون أنهم اقتربوا من وحش ضبابي لايمكن قهره،

سيعرف أبي متأخرا بعد أن قيدني أني حيوان ويفهم، ويمكن لي أن أكون أليفا بحيث إذا أطلق سراحي ألا أؤذي أحدا، وأني مهما ابتعدت عن مربطي عائد لا محالة، هذه المعرفة المتأخرة بي، لم تقصر من عمر أبي، لكنها أصابته بأمراض كثيرة، وصار أكثر حاجة إلى كلب يمنع عنه الوحوش التي رباها لافتراسي هذا إذا ظهرت عندي نوازع الشر، ورغبت في حبل أطول، أو بحصة اكبر في الطعام، لكنه أبدا لم يضع في الحسبان أن الفترة التي تربيت فيها، بالقدر الكافي من الحرمان، جعلتني غير قادر على النباح، وأن أنيابي التي يفترض بها أن تكون أنياباً، صارت صغيرة كأنها كتل من الكلس القديم، تبعاً لنمط الغذاء الذي تعودته وتأقلمت معه، أو أقلمت معه، وصار لزاما كجزء من الوفاء للناهب أن أبصره بما آلت الحال إليه، وقد أوشكت من ظلمة لابد أن الضوء الذي ستبينه فيما بعد بعيد، ويحتاج الأمر إلى ركض في غابة تتربص الوحوش بعيونها المنطفئة خلف شجر يتحرك هو الآخر وقد تحولت خضرته الصافية إلى الأسود الخانق كبئر نفط 

- ياأبي أنا أنفع لكل شي.

-  أريدك محارباً ياولدي!!

- لكن الحرب مميتة ياأبي؟!

- ألم تقتل في سهل الشوك؟

- قتلت..

- ما الذي يخيفك إذاً؟

- لاأريد أن أموت مرتين.. 

ثم بكى الطفل الذي يسكنني: يا أبي أردتني حطاباً فصرتُ، وأردتني كلباً وصرت، وأردتني الوحش الهزيل تختبر به وحوشك القوية وصرت، وماذا بعد قلت حيث انتهت ساعة الحكاية، فيما بعد مكتشفين زيفها، «فسهل الريح لا يعطي عبيد الريح زرعا» كدلالة على أننا يجب أن نكون أكبر من أب، حين تدربنا أن نكون كباراً، هذا أنا والحقيقة كثيرا حاولت أن أتخلص من (أنا) الكونية، وحين تحدثت عن أخوتي كان فعل القول لي، فأنا الطرف الأول المهزوم والمتأزم، وهم  (بأناهم) وهو أبي (بأناه ) طرف ثان هم مهزومون أيضاً من الداخل على شاكلة السجان، بهذه الروح الناقصة، دخلت المباراة النهائية، وكنت أكثر الآخرين حنقاً، وشعورا بالغبن، ولم أبكي لكني كنت أسمع نحيباً يأتي أذني، ولم أستطع تبين موضعه فيَّ، فسألت من حولي ما إذا كان الصوت قد وصلهم، وأدركت أن نحيبي يشبه بكاء النائم، فسألت ثانية ماذا كنت نائماً، قالوا: عينك مفتوحة، وكنت واقفاً مثل شجرة ميتة، تتحدث عن كرة الفاجعة، من أين ستأتي وكيف تهز شباكك، وكنت ترقب برأس استدار للخلف، وصدر يتوجه للأمام، وكأنك تنتظر الضربة تقصم ظهرك.. قالوا!.