الأغنية التراثية.. نبضُ حياة

الأغنية التراثية.. نبضُ حياة

تحكي الأغنية الشعبية هموم الناس وأفراحهم، وتعتبر سفيرتهم في التعبير المتبادل فيما بينهم.. تحمل معها كمُّاً هائلاً من الموروث الثقافي الخاص بالجماعة البشرية عبر الزمن، وهي غالباً ما تعبر عن إبداع تلقائي صادر عن فكر ووجدان مشترك بين أبناء مجتمع ما، يمارسها المجتمع في إطار من عاداته وتقاليده ومناسباته الاحتفالية المتنوعة.

تتميز الأغنية الشعبية بخصائص عديدة منها سعة الانتشار، وجماعية التأليف (بمعنى انتمائها لبيئات مختلفة منفصلة مكانياً وتجمعها هموم ووقائع واهتمامات مشتركة، بما فيها ذاك الجزء من الأدب المنقول شفاهاً)، ومعالجتها لموضوعات تهم الجماعة. نصها سلس، سهلة اللحن، المتكامل مع الكلمات، ولها ارتباط مادي وعقلي وروحي بالمجتمع المعني. رغم ذلك ثمة من يخلط بين ما هو شعبي، وله امتداد زماني، وبين ما هو دارج وشائع، فليست كل أغنية شائعة، هي شعبية بالضرورة..!


الانتقال شفاهاً..

يوجد الكثير من الأغاني الشائعة في الوقت الحاضر التي تعبر عن ميول واتجاهات تعارض الاتجاهات الشعبية، ولا تمثل سوى فئات محدودة وضيقة في المجتمع. لذلك تنتشر فترة من الزمان ثم تخبو، ويطويها النسيان، وغالباً ما تفقد مثل هذه الأغنية تأثيرها في الشعب فلا تكون ضمن مأثوراته، لأنها أصلاً لم تعبر عنه.
وبما أنه ليس للأغنية الشعبية في الغالب نص مدون، لذلك نراها تنتقل من فرد إلى آخر، ومن جماعة لأخرى عن طريق الرواية، والمشافهة. ولها أكثر من إطار، مما يجعلها تظهر في نصوص عديدة، تعبر أغلبها عن معنى واحد، حيث يساعد اللحن على سهولة حفظها وانتشارها، فالقول المنظوم الذي يتخذ جرساً معيناً أسهل في الحفظ والنقل من القول المنثور الذي لا يتبع إيقاعاً موسيقياً على أي نحو من الأنحاء.
إن سمة المرونة التي تتسم بها الأغنية الشعبية وقابليتها للتغيير والتشكل بمواجهة الأنماط الجديدة في الحياة والتعبير عنها، تساعد على بقائها في ذاكرة الناس فيرددونها كجزء من ثقافتهم العامة. كما أن استمرار الأغنية الشعبية وبقاءها، ساعد في الحفاظ على اللحن الموسيقي الذي تظهر به، إذ هناك توازن وانسجام بين الأدب الشعبي، والفن الشعبي، أي الموسيقى المصاحبة للشعر- اللذين يكونان معاً الأغنية الشعبية.


ملكية عامة

الكثير من مؤلفي الأغاني الشعبية مجهولون، ولكن لا يمكن القول بأن الأغنية الشعبية ليس لها مؤلف- فلا بد أن يكون قد أبدعها فرد من الأفراد، ولكنها تصبح ملك عامة الناس بعد أن أصبحت جزءاً من التراث الشعبي، فإبداع الأغنية لا يمكن أن يكون من عمل العامة، ولكنه عمل فردي لاقى من النجاح والرواج بين أفراد الشعب ما جعل العقل الجمعي يتبناه، فيصبح بذلك ملكاً للجميع، وقد يعدل الناس في الأغنية أو يبدلون بعض كلماتها وفق مقتضيات التحولات في المجتمع وظروفه، ويُنسى المبدع الأصلي للأغنية، وهنا تتحول إلى (أغنية شعبية) مجهولة المؤلف معبرة عن مشاعر الناس وخلجاتهم وأمانيهم، كما أنها وسيلة من وسائل المرح والبهجة التي تعينهم على إنجاز عمل صعب، كالحصاد مثلاً، ويجدون فيها متنفساً لمشاعرهم المختلفة.


الأغنية الشعبية الفراتية

تزدهر الأغنية الشعبية في المجتمعات الريفية لأنها متنفس هذه المجتمعات، وعلى سبيل المثال، استطاع أبناء المنطقة القاطنين على ضفتي الفرات، وحولها، المحافظة على الأغنية الشعبية لكونها جزءاً من تراثهم الثقافي.
تحوي الأغنية «الفراتية» السورية أنغاماً حافلة بالمشاعر والصور والألوان، تتدفق من خلالها المفردات المكونة لحياة الناس، فهي تصف حياتهم وما يدور فيها من أحداث وتفصح عن طريقة معيشتهم وتفكيرهم، وعواطفهم ومشاعرهم، مصورة الحب والألم والعمل ..الخ. وهي أيضاً كغيرها، قديمة ومتنوعة الألحان والمفردات نتيجة تعدد الحضارات التي سكنت وادي الفرات، ما أدى إلى تفرد المدينة بلهجة خاصة تحتوي مفردات من البداوة والريف، إضافة إلى اختلاف ألوان غناء سكان الضفة اليمنى من النهر عن اليسرى، وهي تحمل من بيئة النهر والسهل والبادية الكثير، وتعبر عن عالم خاص بأهالي المنطقة وحياتهم.


«الفراتي» و«العراقي»

يشير الباحث «عبد القادر عياش» في كتابه «غزليات من الفرات» إلى ميزات الأغنية الشعبية قائلاً: «تمتاز بالجمالية الشعرية والعذوبة اللحنية، وشفافية الفكرة، كما أنها وفي أغلب الأحيان، راقصة تدفع سامعها إلى التحرك معها تحركاً منسجماً مع إيقاعها ونبض ألحانها، كما أنها بسيطة الأفكارومعبرة..».
ويضيف: «تصنف الأغنية الشعبية من عدة نواحٍ أولها المقام، وتمتاز بشعبيتها وقوة كلماتها، وتتميز بالحزن نتيجة قسوة الطبيعة، وتجد في هذه المنطقة الألوان الثلاثة للغناء البدوي والريفي ولون أهل المدينة التي تطورت لهجتها اللغوية وأصبحت أقرب للفصحى حيث اشتقّت لهجتها الخاصة من لهجة أهل البادية وأهل الريف».
تكثر أوجه التشابه بين الأغنيتين الفراتية والعراقية، بسبب القرب المكاني، والتقارب الاجتماعي، إلا أن الأغنية الفراتية ألطف لغة، وأكثر فرحاً وأدق تخصصاً، وهي تتلى منغمة بمصاحبة الآلات الموسيقية الشعبية «كالربابة» أو «الشاخولة». أما الأغنية العراقية، فغالباً ما يخيم عليها الألم والحزن.
تحتوي الأغنية الشعبية الفراتية بشعرها الغنائي إرثاً ضخماً، ولكنها لا تلقى الاهتمام من الجهات صاحبة العلاقة، مما يعرضها لخطر النزييف والتشويه والنسيان رغم تأصلها في الوعي الجمعي. إن تجميع الأغاني التراثية وتصنيفها ودراساتها والحفاظ عليها، وتطويرها، هي إحدى أهم متطلبات الحفاظ عليها، لأنها تعتبر جزءاً من الهوية الوطنية.