دستويفسكي.. "نكاد أن نلمس أفكارك"
عندما يتعرف الناس على أدب وفن رفيع المستوى، ويأخذ بألبابهم وأحاسيسهم، فأنهم غالباً ما يحبون الفنان المبدع الذي أنتج ذلك الفن كما يحبون فنه، وكثيراً ما يتملكهم الفضول تجاه حياته الشخصية والرغبة بمعرفة تفاصيلها: كيف كان يعيش أو يتصرف في حياته الطبيعية اليومية. ربما يدفعهم إلى ذلك رغبتهم بمعرفة الحد الفاصل بين الحياة الطبيعية للفنان أو الأديب كإنسان مثل سائر البشر، والحياة الفكرية وسيرورة الحالة الذهنية والخيال الصاخب الذي يحكمه و"كُنه" ومحتوى حياته الإبداعية.
صدر مؤخراً عن "دار سؤال" اللبنانية ترجمة أكبر مجموعة من رسائل دستويفسكي، قام بترجمتها المترجم العراقي خيري الضامن، لتنشر في طبعة جديدة بمجلدين (حوالي ألف صفحة) وبدعم من معهد الترجمة في روسيا.
ويؤكد المترجم أنه: "مهما كانت معرفة القارئ العربي كبيرة بحياة دوستويفسكي، الذي يتحدث العالم عنه من سنين وسنين، ففي رسائله معلومات أغنى وأعمق وأدق. إنها دائرة معارف شاملة عن حياة المجتمع والاتجاهات الفكرية في القرن التاسع عشر، وبخاصة عن الأدب الروسي في عصره الذهبي..".
وبالفعل تكاد تبدو حياة دستويفسكي أشبه ما تكون بإحدى رواياته الضخمة والمليئة بالشخصيات الغريبة والأحداث المتنوعة والمواقف المختلفة لشخصياته المرسومة بطريقة قلما نجد لها مثيلاً في عالم الأدب من حيث غناها وعمقها.
عاش فيودور دوستويفسكي في بطرسبورغ حيث تخرج من كلية الهندسة، ولكن دراسته وعمله لم يشبعا ميوله القوية نحو الادب والتعبير الفني ولذلك لم يستمر في وظيفته فاستقال عام 1844 وتفرغ للقراءة والكتابة.
كان شديد الإعجاب بهوجو وبلزاك الذي ترجم له في عام 1843 رواية "أوجيني جرانديه"، ونشرت في إحدى المجلات الروسية آنذاك. وتأثر كثيرا بأدب بوشكين وغوغول لدرجة كبيرة وقد قال مقولته الشهيرة بعد ان نضج وأصبح كاتباً كبيراً : "لقد انحدرنا جميعاً من معطف غوغول" مشيراً إلى قصة غوغول المعروفة "المعطف".
تعرف فيدور دوستويفسكي عن قرب بالناقد الروسي البارز فيساريون بلنسكي، فقد عرض أحد أصدقاءه رواية المساكين على الشاعر الروسي نكراسوف، فعرضها بدوره على بلنسكي فأعجب هذا بها كثيراً وتأثر بها بشدة لدرجة أنه وصفها، رغم قساوة أحكامه قائلاً: "إنها المحاولة الأولى عندنا لكتابة قصة اجتماعية".
وحينما أحضروا دستويفسكي ليسمع رأي بلنسكي في روايته، خاطبه قائلاً: "ولكن هل تفهم ما كتبت أيها الفتى؟ لقد كتبت قصتك بوحي من غريزتك الفنية". وتابع: "إننا نحن النقاد والناشرين لا نستطيع إلا أن نتعمد ونحاول شرح فكرتنا بكلمات كثيرة، أما أنت ، أيها الفنان، فتستطيع أن تقدم الفكرة نفسها، بسمة شخصية واحدة، وبلمسة واحدة، وبصورة واحدة ، تستطيع أن تقرب الفكرة وتوضحها حتى لنكاد أن نلمسها بأيدينا.." .
وقد تأثر دستويفسكي بهذه الكلمات كثيراً ووصف انفعاله بها: " لقد تركتهم وانتحيت بنفسي جانباً، وأنا في أشد حالات الانفعال، وأحسست بكل كياني أني أعيش لحظة بالغة الأهمية".
تعرف دوستويفسكي بالمثقف الروسي ميخائيل بيتراشيفسكي وتجمع حوله أولئك الذين تعرفوا على أفكار الفيلسوف الفرنسي شارل فورييه الاشتراكية ودعواته إلى تغيير المجتمع. انضم دوستويفسكي إلى حلقة "زملاء بيتراشيفسكي" الذين اسسوا جماعة شبه سرية. وتمكنت الشرطة من تتبع الجماعة حتى ألقت القبض على أعضائها في ربيع عام 1849. وحكم على دوستويفسكي بالإعدام. لكن في آخر لحظة ، وقبل تنفيذ حكم الإعدام بحقه صدر مرسوم قيصري يقضى باستبدال الإعدام بأربعة أعوام من الاعمال الشاقة في مقاطعة أومسك بسيبيريا. عايش دوستويفسكي عملياً وهو واقف على منصة الإعدام ويتدلى فوق رأسه حبل المشنقة، طقوس تنفيذ حكم الإعدام، وقد وصف هذا المشهد الرهيب في روايته "الأبله".
ووصف أيضاً حياته وهو يقضي حكم الأعمال الشاقة لاحقاً في كتابه "ذكريات من منزل الأموات". وساعد دوستويفسكي شقيقه ميخائيل في إصدار مجلة أطلق عليها اسم "الزمان". وبعد إغلاقها، أعيد إصدارها تحت عنوان "العصر" ونشر دوستويفسكي بهاتين المجلتين مؤلفاته "ذكريات من منزل الأموات" و" مذلون ومهانون" و"رسائل من القبو السري".
ويؤكد مترجم رسائل دستويفسكي قائلاً: أن "رسائله عبارة عن رواية وثائقية ضخمة (في 250 فصلاً أو رسالة) لا تقل إثارة عن سائر إبداعاته الروائية. أبطالها الرئيسيون (وفي مقدمتهم دوستويفسكي نفسه وأخوه ميخائيل، والثانويون، صغاراً وكباراً) يعيشون حياة قصيرة في الغالب، إلا أنهم يتطورون في إطارها من جميع الوجوه، يصنعون الأحداث الدرامية فتسحقهم وينصهرون في بوتقتها، ويموتون، فيما تبقى زوجة الكاتب آنّا غريغوريفنا التي لها حصة الأسد من الرسائل، والتي تعيش قرابة 40 عاماً بعد وفاة زوجها وتنشر مذكراتها الشهيرة عنه في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين".
ورغم أنه كُتب الكثير عن دستويفسكي وعن أدبه، لكن يبقى هناك المزيد مما يمكن استشفافه من مخزونه الإبداعي وما يمكن تعلمه من إرثه الذي وظف فيه طاقات إبداعية هائلة صقل فيها أسلوبه الروائي المتفرد والآسر.