أيديولوجيا الرأسمالية في مرحلة التراجع؟
محمد المعوش - بيروت محمد المعوش - بيروت

أيديولوجيا الرأسمالية في مرحلة التراجع؟

القول بأن التراجع الشامل يحكم مستويات الامبريالية يحتِّم تلمس معالمه، وإن كان على الجبهة السياسية والاقتصادية أشد وضوحا وتكثفاً، فهو ينعكس بلا شكل في باقي مستويات النظام، الأيديولوجي منها تحديداً.

وتحديد هذه المعالم ضروري لتمييز الخط الفاصل ما بين القائم ونقيضه، وكشف المناورة من قبل الفكر البورجوازي وأشكال تمظهره المتجددة من ناحية، والتأكيد على عناصر التركيز الأيديولوجي البورجوازي في محاولته تجديد نفسه تلاؤماً مع الانهيارات التي تميز عناصره جميعاً من ناحية أخرى، فالثوري مطلوب منه أن يميز ذاته ضدياً، ففي الفكر البورجوازي يَبرز أيضاً ما استخلصه الفكر الثوري في الجديد الاجتماعي، ولكن على أرض البورجوازية نفسها، التي تعبر عن محاولتها تلقف العناصر الجديدة الأكثر بروزاً اجتماعياً وإعادة إنتاجها لقطع الطريق على الفكر الثوري، ومحاولة التشويش علَّه يمدّ نفسه بمصل حياة مؤقَّت.

معالم المستوى الأيديولوجي

وبعض «تقنياته»

إن اعتبار الجبهة الأيديولوجية هي الأخطر لكونها تمتاز بصعوبة إنتاج أدواتها ووضوح هذه الادوات في وعي المتصارعين، وضرورة اليقظة الفكرية، أمام فكرٍ «محتالٍ» هو الفكر البورجوازي، كفكرٍ تمويهيّ في وظيفته، لإخفاء الواقع وحركته. هذا الفكر الذي تجدد بتجدد الصراع الاجتماعي تاريخياً، وبتجدد الفكر الثوري وخطابه والقضايا والحلول التي يقدمها.

من المواجهة والصمت

إلى التحريف وإعادة الإنتاج

عدة أشكال من المواجهة خاضها الفكر البورجوازي ضد الفكر الماركسي، من التجاهل والتعمية وخنق مصادر ومنابر هذا الفكر، إلى التشويه والتحريف والابتذال في مراحل لاحقة، حين أثبتت الماركسية قدرتها على التغيير وصيرورتها في وعي الجماهير.

ولكن في بعض الحالات اللاحقة كان الفكر البورجوازي وإن كان يطرح بخبثٍ شعارات الماركسية في التغيير والاشتراكية، إلا أنه كان لا يعلن الحرب على الرأسمالية بشكل مباشر إلا ما ندر، بل يحيل هجومه إما إلى الفراغ وإما إلى عناصر جزئية محددة من النظام.

إذاً، انحكمت هذه العلاقة بعنصرين أساسيين، مدى أزمة النظام الرأسمالي، ومدى تقدم الفكر الماركسي.

أي أيديولوجيا للأزمة؟

تمتاز الأزمة التي يعيشها النظام الرأسمالي العالمي، كامبريالية، بعناصر جديدة ونوعية، أولاً: كون القاعدة المادية الاقتصادية الاجتماعية لهذا النظام تصطدم بسقوف تاريخية لناحية تراكم الثروة دون المس ببقاء المجتمع والطبيعة بذاتهما، حيث اليوم يحصل التدمير المباشر للمجتمع والطبيعة على حد سواء. وثانياً: بوصول التناقضات الاجتماعية ليس على المستوى الكمي فقط لناحية توزيع الثروة وحاجات البشر المادية الملموسة، بل نوعياً في مدى تناقض نمط الحياة الرأسمالي إن كان في الدول التابعة أو دول المركز نفسها، مع حاجات البشر المعنوية، وهذا ما يتطلب تثوير البناء الفوقي والتحتي كليهما، فالحاجات المعنوية التي تقدمت لدى البشر لم يعد من الممكن استيعابها في رفع نسبي لمستوى المعيشة، بل تتطلب تحولاً في نمط الحياة وعلاقات عمل الأفراد وغاية عملهم.

ماركس والاغتراب، الماركسية طرحت أزمة الفرد ضمن الجماعة

تلاؤماً مع الأزمة المعنوية التي يعيشها الأفراد على مستوى اغترابهم عن واقعهم وسلبهم قيمتهم من قبل النظام، مهمشون مادياً ومعنوياً، منفصلون عن عملهم وحياتهم وكأنهم يشاهدونها من خارج، لا ينتمون إليها إلا قهراً وتفككاً وموتاً مادياً ومعنوياً، طرحت الماركسية، إن التحول في نظام الإنتاج من الرأسمالية الى الاشتراكية يعيد للانسان إنسانيته، ويربطه من جديد بالحياة الاجتماعية والطبيعة التي تشوهت علاقته بهما في ظل الرأسمالية.   

انطلاقاً من حدة التناقض من جهة، ومن بروز عناصر جديدة في حياة ووعي الفئات الاجتماعية المقهورة، كالجانب المعنوي، من جهة أخرى، يحاول الفكر البورجوازي أنن يتموضع، بغير لباس الفاشية، فبعض هذا الفكر «أكاديمي» أو «علمي» ولا يمثل مصالح الفئات الأكثر رجعية في النظام، لكي لا يفقد مبادرته في إنتاج نظرة «متكاملة»  أيديولوجياً ليحمِّلها للقوى الاجتماعية في محاولتها الإجابة عن أسئلتها الوجودية واليومية، ومعبراً عن حدة الأزمة التي تمر بها الامبريالية.

«آلان تورين» نموذجاً: الامبريالية تتفكك والبديل «أخلاقيّ»

العدمية والميوعة و«الأسطورة»، إلى جانب الفاشية، الوجه الآخر لأزمة الأيديولوجية الرأسمالية اليوم 

في تشرين الأول الماضي(2015) أصدر عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين كتابه «نحن، الذوات البشرية»(5Nous, sujets humains, Seuil, Paris, 201)، الذي يحاول فيه «تأسيس فكر اجتماعي جديد قادر على الإلمام برهانات العالم المعاصر»، بعد تحليله لنهاية المجتمعات الصناعية في كتابه الأسبق «نهاية المجتمعات»، الذي يعتبر فيه أن هذا المجتمع الذي قام على الصراع الاجتماعي بين الطبقات والأحزاب السياسية «قد انتهى»؟، فهو يرى في كتابه الجديد أن المجتمعات الجديدة هي «متمحورة حول الذات»، حيث تقوم السلطات القائمة بالتحكم بهذه الذات وتنتجها على مقاسها ومصالحها القائمة، ويشمل – حسب زعمه - المجتمعات القائمة بهذه الصفة كلها، دون تمايز فيما بينها، من حيث صفتها «الكليانية» «اشتراكية» كانت أم «رأسمالية» حسب تعبيره، وفي المرحلة الراهنة يعتبر تورين وجود ثلاثة أنماط ، «لعلّ أبرزها وأقربها للحركة الكليانيّة القديمة الحزب-الدولة الذي صاغ الإتحاد السوفياتي نموذجه، والذي يمثّل الحزب-الدولة الشيوعي الصيني مثاله الأهمّ اليوم.» ولكنه لا يوصف النموذج الصيني من الناحية الاقتصادية ويكتفي بصفة «الكليانية»، أما النموذج الثاني فـ« يتّصل بالعالم الغربي حيث نجحت الرأسماليّة الماليّة في بسط هيمنتها. لقد قطعت هذه الرأسماليّة الجديدة مع الاقتصاد الفعلي، فأغلب الرساميل المتوفرة موظّفة في أنشطة تخلو من كلّ وظيفة اقتصاديّة منتجة،  بل يمكن أن تكون لا مشروعة، مثل تجارة السلاح والمخدّرات، وهدفها تعزيز امتيازات أصحاب السّلطة، أو الـ1% الحاكمة كما يقول الشباب الأمريكي»، «أما الشكل الثالث من السلطة الكليّة، فيحيل على ما أسميه «الاستبداد ما بعد القومي» الذي أزاح الأحزاب الناشئة عن التحرّر من الاستعمار، وهو الواقع الذي ألفناه منذ سنة 1979، مع تولّي الخميني السلطة في إيران. إنّه العالم الإسلامي الذي يكون فيه الحكم باسم الدين.». فلا تمايز إذاً بين الأنظمة فكلها تتماهى بصيغة «الكليانية»، مع الإشارة أنه اعتبر «داعش» في مشروعها لمحاربة الغرب(وكأن هذا المشروع هو طبيعة «داعش» حسب خطاب الغرب نفسه)و تلغي تاريخ وثقافة المنطقة العربية كذلك!

ويرى تورين في البديل مشروعاً اجتماعياً يرفع شعار «قيمة الفرد»، وذاتيته، وتحررها من السلطات «الكليانية» القائمة اليوم.

وهذا المشروع يتم عبر «فاعلين اجتماعيين» غير أولئك الذي كانوا في السابق فاعلين تغييرين كالأحزاب والنقابات العمالية، بل عبر حركات «إيطيقية»/أخلاقية، تمكِّن الفرد من تحقيق ذاته، ضد تذويبها في التنظيم أو في شخصية الزعيم. حيث يستعيد هنا العديد من الأفكار البورجوازية تاريخياً من فوضوية ولا نظامية وفردية، ويقرنها بالديمقراطية  والكرامة حسب تعبيره.  ويجب على أعداء هذه الأنظمة «الكليانية» «استدعاء ما فوق الكلي، وهو الكوني»، «فلا تكفي المعارضة من خلال فرض حقوق سياسيّة واجتماعيّة أو ثقافيّة، بل يجب استدعاء أمر من طبيعة مغايرة كليّاً، ألا وهو الكائن الإنساني في قدرته على تحويل محيطه، بل وإبداع ذاته بذاته كذلك»،  بعد «أن هيمن في مرحلة ما بعد الحرب قتل الذات على يد البنيويين من جهة، والماركسيين من جهة أخرى».

جديد تورين، ولا جديده، إفلاس الأيديولوجية الرأسمالية

لا يطرح تورين جديداً في كتابه الجديد، لناحية وضع «أسس فكر اجتماعي جديد»، بالرغم من أنه يظهر العديد من صفات الامبريالية لناحية الاحتكار والإجرام وتدمير الطبيعة، ولكنه يعزز فكرة «الذات» كمفهوم محوري في «فكره الجديد»، وهذا ضروري في مرحلة تفاقمت فيها حدة الاغتراب في المجتمع الرأسمالي، الذي هو اغتراب الذات بالنهاية، وهو ما حاول التقاطه تورين وتقديمه على خيار التغيير الاجتماعي، مع ان المهمتين مقرونتين مادياً. ولكنه في وظيفته الأيديولوجية يستكمل الطرح بحلٍّ أخلاقي، لا يعبر فيه عن أساسه المادي، الاقتصادي- الاجتماعي، مع أن الماركسية وطرحها الاشتراكي متقدمة على تورين بأكثر من 150 عام مضت، ولا تغيب طروحات الأحزاب الشيوعية، في عالمنا العربي بالتحديد، سابقاً وراهناً، عن هذا السياق التاريخي للماركسية، لناحية طرحها شعار الكرامة وقيمة الإنسان الفرد، على أساس إلغاء علاقات الاستغلال الرأسمالية، نحو مجتمع تحرر قوى الانتاج من قمع العلاقات الرأسمالية، والتبعية في حالتنا، وهدف تراكم الربح الذي «حاربه» تورين في كتابه الأخير.

ويدل هذا على أن الفكر البورجوازي يقف حالياً موقف العاجز عن الإحاطة بالتحولات وتقديمها منتجة من جديد من أجل تأبيد الواقع، أو حرف الخط العام عن وجهة الاشتراكية كخيار ضروري للمجتمعات، مع أنه تكلم بخطاب «الماركسية» شكلا وعناصراً، وهذا ضروري في مرحلة يفقد هذا الفكر أرضه المادية، فإما هو يعلن إفلاسه الواضح، وإما يبقى فكراً اسطورياً خارج حركة التاريخ، يقترب من الروحانية(كما ملامح فكر تورين) حيناً، والعدمية والفاشية حينا آخر.

وهذا يفرض تقدم الفكر الماركسي لخوض المواجهة على هذه الجبهة، وإغناء برامجه بالترجمة الملموسة والخطاب الضروري للتعبير عن الجديد الاجتماعي، فالمعركة السياسية، والتي تنتظرها دولنا في سياق الحل السياسي الذي تصارع من أجله المجتمعات في العالم وقواه الحيّة، تفرض هذا المشروع الاجتماعي للقوى الاشتراكية، نحو نمط حياة بديل، الاشتراكية في شكلها الجديد.  

  

نشر نصّ الحوار الأصلي مع تورين بالفرنسيّة على موقع Télérama بتاريخ 16/10/2015.