سفح قاسيون و«الفورسيزنز»
«استشهد.. قتل.. اغتيل.. توفي.. فارق الحياة.. أُودع الثرى.. أسلم الروح.. أسقط الرأس.. انتهى عمره.. انتقل إلى رفيقه الأعلى..» نخاف الموت، ونسخر منه، لكننا مفتونون بإيجاد ما نقدر من الكلمات لإبعاد شبحه عن أيامنا، حتى وإن كلفنا الأمر الرحيل مرغمين، لم تكن الروح يوماً رخيصة، حتى وإن تشدقنا بقدرتنا على وهبها لمن نريد، فالموت هو الموت، هو الثابت الأقوى في حياتنا، ومن لا يجله لن يجلّ يوماً الحياة..
على كل حال لم يعد الموت مخيفاً إلى هذه الدرجة لمن افترش الحدائق وسكن المدارس، إنها الحياة مع اليأس، ما تبقى من العمر بعد أن مر الموت على عتبات بيوتهم المهدمة وأمر الزمان بالصمت، آلاف من الصور تعتمل في الذاكرة، «ما العمل..؟». «إلى أين؟»، «هل سيجمعنا الضياع الآن بعد ما فرقتنا أوهام التعاضد؟». أسئلة كثيرة تنتظر الإجابة، بينما مئات الآلاف من الكتل الرمادية أجبرت على الهروب تحت جنح الظلام.
لم يعد الكلام يعني شيئاً بعد أن امتلأت الأرواح بالهراء التلفزيوني طوال الشهور الماضية، هل يقدر أحد بكلماته أن يمحو ذلك السواد في عيون طفل يركض خائفاً هارباً من منزله يحمل متاعاً لا يحوي أية لعبة من ألعابه..؟!.
«في شي غلط يا أخي..»، صاح «أبو أحمد»، بياع الشاورما في أحد شوارع المعضمية «الفور سيزو ئاعد ع كعب قاسيون والناس فوقو مكومة عالجبل حتى وصلت عالسما..!».
أذكر وقتها كيف تندرنا نحن رواد محله الصغير على طريقة لفظه لاسم الفندق الشهير.. كان هذا منذ أربع سنوات.. كنا نمضي الكثير من الوقت هناك، حيث يحدثنا الشيخ العجوز عن الأيام الذهبية للغوطة، والربوة، ومياه بردى.. وهو يغرز سكينه الكبيرة في سيخ الشاورما الذهبي.. لكن الشهور الأخيرة قد أعملت سكينها فيه وبعائلته بعد أن تحول محله الصغير إلى حجارة مبعثرة.
بدأت القصة بقذيفة «طائشة» أطاحت بمدخل رزقه وانتهت برؤيتي له ذاك اليوم يساوم على شراء براد صغير مستعمل لعائلته الكبيرة والتي علمت لاحقاً بأنها حُرمت عن طريق قذيفة أخرى من «الحاجة» زوجته. لا أعرف أين يسكن «أبو أحمد» الآن.. لم أقو على لقائه وقتها والسؤال.. لكن عندما سردت قصة «أبو أحمد» أمام أحد أصدقائنا القدامى، أقسم لي بأنه رآه قبل عدة أسابيع يفترش حديقة «الفور سيزو..». ميّز لحيته بين الأمواج البشرية المترامية على البساط الأخضر.. «شو عم تعمل هون؟» سأله صديقي، إجابه بابتسامة باهتة: «أخدت جناح ع حساب الدولة..!».
وبعيداً عن أسماع «أبو أحمد»، لن يتوقف الكلام، وعلى الرغم من ملل الجمهور لا تزال الصرخات والشتائم تلوث الآذان من وراء الشاشات الالكترونية أو على المنابر البعيدة عن الوطن في المكان والمقال، هناك تصفيق لكن لا تعليق، يهز السوري رأسه ويزفر: «أما من خلاص؟!».
أصبحت سبابات الاتهام كحد السيف تقطع في أوصال البلاد: «مناطق محررة» و«مناطق مدمرة»، و«مناطق تحت السيطرة».. ويحلو بعدها لجرذان الأنقاض، العبث بما تبقى، ليصبح الانتماء إلى هذه المناطق او تلك تهمة خطرة قد تكلف أحدهم رأسه على أحد الحواجز.
فلنحمل إذاً ما نقدر من متاع ولنرحل إلى مكان آخر، إلى مكان تستطيع فيه بقايا أحلامنا أن تزهر، إلى مكان لا يفترس فيه الأخ أخاه بلسانه قبل يديه، إلى مكان تهدأ فيه الأرواح المجروحة التي تتقاذفها الأخبار الدموية من كل جانب، إلى مكان يعرف فيه كل سوري بأنه بداية القصة ونهايتها...
هناك أمّ تصلي لسلامة القاتل دون أن تدري وأمّ تصلي لسلامة المقتول، دون أن تدري أيضاّ. والكل ضحية وساوس الاختلاف التي عرتها تلك المصائب المتتالية بقسوة ليدرك فيها الجميع هشاشة كل تلك الحواجز الموروثة بين الإخوة.. ألم يكف ذلك كله بعد لإدراك هول المصيبة في شرقنا العتيد؟