الصفعة
علاء حبيب علاء حبيب

الصفعة

اقترب إلي مسرعاً وصفعني بقوة، كسرت هذه الصفعة على الفور مئات الأشياء في داخلي، دارت الدنيا من حولي وأنا ما أزال محدقاً إلى جدي، ما زال يتنفس بقوة وعصبية بعد أن أودت صفعته بي إلى عالم آخر، يده ما زالت ترتجف، «ما الذي فعلته؟» ..!

تساءلت وأنا أنقل بصري بين جدي وأمي التي تراقب ما حدث وهي تهز رأسها، اقتربت منه ، ربتت على كتفه وأزاحته من أمامي وهي ترجوه أن يهدأ، «شايف هالإيد؟ عمرت نص بيوت البلد..» عاود الصراخ في وجهي، وأنا ما زلت أضع يدي على خدي الحار.
«ما الذي فعلته؟».. لم أفهم وقتها، هذا الموقف هو الأشد وضوحاً في شريط الذكريات، مرت سنوات على ذلك «الكف» وما زلت أتحسسه إلى اليوم، لكن تلك السنين عملت تدريجياً على إسقاط إشارة الاستفهام حوله، فهمت ما يقصده الرجل المسن الصعب العابس دائماً.
خمسة عشر عاماً أخرى كانت كافية لمعرفة الذنب الأكبر الذي اقترفه حفيده في ذلك الوقت، إنه أحد الأيام التي عانت منها أمي وهي تحاول إيقاظي في الصباح، تململت في الفراش لساعات وانا أعاندها بسماجة لم يعد جدي قادراً على احتمالها، إنه الجد الذي تقف العائلة كلها له احتراماً عندما يدخل أي غرفة، هي عاداتنا التي ربما تكررت مع أجدادكم أيضاً، إنه بحق رب الأسرة وعماد العائلة، الرجل الذي نحت بيته من الصخر وبنى غرفه حجراً فوق الحجر، حرفياً وبكل معنى الكلمة، فقد كان جدي ينقل الأحجار من قمة الجبل الذي تنام ضيعتنا في حضنه من الصباح حتى المساء ويرميها في ساحة البيت، فيرتفع جدار جديد كل اسبوع وتُغرس شجرة أخرى في الفناء، وتكتمل معالم البيت الذي شهد ولادة أمي وإخوتها واحتضن جميع ذكرياتهم «الله يلعن هالجيل» هي الجملة التي ما فارقت لسان جدي حتى أيامه الأخيرة، جملة تلسعني اليوم بالذات كما لسعني ذلك «الكف».
«ربما كان جدي محقاً» همست لنفسي وأنا أتنقل بين صور المدن المحترقة والجدران المهدمة، فاليوم تكثر الأيادي الماجنة التي يرقص أصحابها بكل وقاحة على أوابد الاجداد، صفعة أخرى أتلقاها يا جدي، مع كل مشهد من هذه المشاهد، «رحمك الله يا جدي، ارتحت من رؤية ما أرى، ما الذي كنت ستفعله لو كنت حاضراً اليوم بيننا؟» أهمس بشغف.
لم تستطع تحمل مراهق يتمرد على أمه ويتهرب من العمل، هل كنت ستهجم على أولئك العابثين بعصا الخيزران الكبيرة التي تحتفظ بها قرب سريرك؟ «إنهم يتمردون عليك يا جدي، إنهم يمتهنون كرامة الجميع دون أن يتمكن أحد من الوقوف بوجههم»، تبكي البيوت التي عمرتها أنت ورفاقك على أولئك الناس.. يمضون صامتين وقد أخرستهم أصوات المدافع، وشظايا الهاون المجنون يوماً بعد يوم، البعض يلعب بالرشاشات ويطرب لصرخات الأطفال والنساء، البعض الذي تشرّب الحقد إلى أن اكتفى.. وآخرون يملكون أياد تشبه يديك.. حالمون.. ينتظرون اللحظة المناسبة