رفع الحد الأدنى للأجور - مضار ومنافع: المكسيك نموذجاً
تضاعف الحد الأدنى للأجور في المكسيك بأكثر من ضعفين بالقيمة الحقيقية خلال السنوات الست الماضية. وهذا ليس إنجازاً بسيطاً، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أنّ هذه السياسة لم تؤدِّ إلى فقدان الوظائف كما كان يُخشى، ولا إلى زيادات في الأسعار. ويعود ذلك جزئياً إلى أنّ الحد الأدنى للأجور في المكسيك كان أدنى بكثير من مثيله في دول أخرى من أمريكا اللاتينية. ومع الزيادة الأخيرة، أصبح الحد الأدنى للأجور في المكسيك الآن أعلى من نصف دول المنطقة. وكل زيادة متعاقبة ساعدت مزيداً من الناس ــ ففي السنة الأولى، استفاد 13.3 % من القوة العاملة الرسمية، وبحلول عام 2025 ارتفعت النسبة إلى 37.4%، أي ما يقارب 8.4 ملايين عامل.
ترجمة: أوديت الحسين
مع التحول الجذري في سياسة الأجور المكسيكية، فإنّ هذه الزيادات الأخيرة في الحد الأدنى للأجور- رغم أنها ترجمت إلى نمو متوسط للدخل بنسبة 25% بالقيمة الحقيقية وانخفاض ملحوظ في معدلات الفقر وعدم المساواة- لم تبدأ سوى بخدش سطح القوة المؤسسية للشركات. فقد ارتفعت حصة الأجور بشكل طفيف فقط، بينما يشير الانخفاض الضئيل في البطالة والتضخم إلى وجود اختلالات كبيرة في العلاقة بين أصحاب العمل والعمال. فسوق العمل المكسيكي شديد الميل نحو «الاحتكار الشرائي monopsony» جزئياً، بسبب قلة عدد الشركات الكبرى، وأيضاً نتيجة ضعف تطبيق قوانين العمل وضعف النقابات. فالممارسات العمالية الشائعة في المكسيك تتيح للشركات ممارسة قدر أكبر من القوة في تحديد الأجور، بما يقل كثيراً عمّا سيكون عليه في سوق تنافسي كامل، مما أدى إلى وفرة في الأرباح على حساب ظروف العمل.
إنّ تحليل التطور التاريخي للحد الأدنى للأجور في المكسيك أمر أساسي لفهم كيف تحولت سياسة الأجور المكسيكية إلى نموذج ناجح ومبتكر. فقد أدى تطبيقها إلى تقليص الفقر لملايين الأشخاص، وحقق نمواً غير مسبوق في دخل الأسر، متحدياً التوقعات التقليدية التي ربطت زيادة الحد الأدنى للأجور بالتضخم الجامح والبطالة.
في عام 1976، وبعد نحو ثلاثة عقود من النمو التدريجي، وصل الحد الأدنى للأجور إلى أعلى مستوى له على الإطلاق عند 20.76 دولار يومياً «بأسعار معادلة لعام 2025». لكن في العام التالي، واجهت البلاد أزمة اقتصادية اتسمت بفرط التضخم وبطالة جماعية. وردّت السلطات حينها بتجميد تعديلات الأجور دون مواكبة التضخم، وهو ما أدى، مع ربط أجور أخرى بالحد الأدنى، إلى فقدان 75% من القدرة الشرائية خلال العقود التالية.
بعد الأزمة وفي التسعينيات، تبنت المكسيك نموذجاً اقتصادياً قائماً على السياسات النيوليبرالية، متمحوراً حول تحرير التجارة، والاندماج في الاقتصاد العالمي، وتعميق الروابط مع أمريكا الشمالية. ومن أجل المنافسة دولياً، اختارت الحكومة إبقاء الأجور منخفضة بشكل مصطنع، حيث جُمّد الحد الأدنى اليومي للأجور عند نحو 5.25 دولار «معدّل بالقيمة الحالية» بين عامي 1990 و2017. ولم يُكسر هذا الجمود إلا بزيادة ضئيلة بلغت 4% بالقيمة الحقيقية في نهاية الفترة، نتيجة تراكم الضغوط الاجتماعية التي أدّت إلى فصل الحد الأدنى للأجور عن أحكام قانونية مختلفة.
وجاءت نقطة التحول في عام 2018، خلال حكومة أندريس مانويل لوبيز أوبرادور. فبمواجهة تنامي مطالب المواطنين بتحسين الأجور، قيّم فريق من الاقتصاديين من «كلية المكسيك» التقدمية إمكانية رفع الحد الأدنى للأجور دون زعزعة الاقتصاد. وسعياً للتوفيق بين العدالة الاجتماعية والاستقرار الكلي، طُبقت استراتيجية تدريجية ومستدامة تقنياً لاستعادة القدرة الشرائية المفقودة خلال سبع سنوات.
بدأ تطبيق السياسة الجديدة في كانون الأول 2018، لتشهد المكسيك أول زيادة مزدوجة الرقم في الحد الأدنى. فقد ارتفع الحد الأدنى بنسبة 16.2% على مستوى البلاد، باستثناء المنطقة الحدودية الشمالية. وتسمى هذه المنطقة من قبل «اللجنة الوطنية للأجور الدنيا- كوناسامي»: «منطقة الحد الأدنى العام للأجور - ZSMG».
نُفذت الزيادات على مرحلتين
المرحلة الأولى: بدأت عام 2016، حين أُقرت إصلاحات دستورية «لفك الارتباط بين الحد الأدنى للأجور والمؤشرات القانونية الأخرى». اتُّخذ هذا الإجراء استجابة لتحذيرات القطاع الخاص وبعض الأصوات النقابية، التي جادلت بأنّ رفع الحد الأدنى للأجور غير ممكن بسبب خطر إطلاق دوامة تضخمية. وكان لهذا القول شيء من الصحة، إذ في المكسيك كانت العديد من مكونات الاقتصاد الأساسية مرتبطة بالحد الأدنى للأجور، مثل: الغرامات والقروض الخاصة وبعض قروض مؤسسة «إنفونافيت»، وحتى اتفاقيات العمل الجماعية.
لذلك كان من الضروري فك هذا الارتباط. ففي عام 2014، وبعد ضغط شعبي هائل، قدّمت حكومة مكسيكو سيتي أول وثيقة تُبرز الحاجة لزيادة الحد الأدنى وفك ارتباطه بالمؤشرات الأخرى. وبعد عام، قدّم مشرّعون يساريون، بقيادة حزب الثورة الديمقراطية، مقترحاً رسمياً بهذا الخصوص، بدعم من ممثلي العمال في «كوناسامي». وأخيراً، في 2016، جرى فصل الحد الأدنى عن تلك المؤشرات، مما مهد الطريق لزيادات لاحقة. ومع ذلك، ففي 2017، ورغم الإعلان عن زيادة «تاريخية»، لم تتجاوز الزيادات 3.2 و4.7% بالقيمة الحقيقية.
المرحلة الثانية: كانت أعقد، لأنها جمعت بين النظرية الاقتصادية وسنوات من المناصرة والنضال الشعبي لتشكيل سياسة أجور ناجحة. وقد أظهرت الأدبيات الاقتصادية، أنّ زيادة الحد الأدنى للأجور بمعزل عن غيرها قد تضرّ بالتوظيف، كما حدث في كولومبيا، بينما في البرازيل لم يكن لها أي أثر. لذلك أجرت الحكومة المكسيكية سلسلة دراسات لتوقع جميع السيناريوهات. واتُّفق على أنّه في السنة الأولى، سيتضاعف الحد الأدنى في منطقة ZLFN شمالاً، بينما سيرتفع بنسبة 16.2% في باقي أنحاء البلاد.
عندها عارض القطاع الخاص فوراً مضاعفة الأجور شمالاً، مدعياً أنها قد تولد ضغوطاً تضخمية، لكنه كان في الأرجح يسعى لحماية مكاسبه الرأسمالية. فقررت وزارة المالية والرئاسة إنشاء منطقة ZLFN مع حزمة حوافز ضريبية، مثل: خفض ضريبة الدخل، وضريبة القيمة المضافة. وكان الهدف أن تترجم مضاعفة الحد الأدنى إلى فوائد مباشرة للعمال. وقد خدمت ZLFN في النهاية كمنطقة اختبار لتقييم آثار السياسة الجديدة.
وبعد السنة الأولى، اقترحت الحكومة زيادات طفيفة فوق التضخم في المنطقة الشمالية للتعويض عن «ضغط الأجور» الناتج عن المضاعفة. أما في بقية البلاد، فقد رفعت الزيادة بنسبة 16.2% الحد الأدنى لأول مرة فوق خط الفقر. وكان الهدف هو رفعه لاحقاً بمعدل 20% سنوياً تقريباً، مع تجاوز 100% بحلول نهاية الفترة الرئاسية.
وقد نجحت الخطة، وأثبتت النماذج دقتها. فرغم المخاوف الشديدة لدى القطاع الخاص، أُقرت الزيادات في السنة الأولى، ولدهشة الكثيرين، أظهرت البيانات الأولية في الشمال انخفاضاً في الأسعار. بل استمر التضخم أقل بشكل كبير في تلك السنة شمالاً مقارنة ببقية البلاد. وقد دحضت هذه النتيجة بشكل نهائي أسطورة أنّ رفع الحد الأدنى يقود دوماً إلى التضخم.
كوناسامي والتنظيم العمّالي
تغير توازن القوى بين الحكومة وعوامل الإنتاج لعدة أسباب.
أولاً: الصرامة التقنية لـ «كوناسامي- اللجنة الوطنية للأجور الدنيا» الجديدة، التي ساعدت في دحض حجج القطاع الخاص التي لا سند لها. فقد تحولت «كوناسامي» في السنوات الأخيرة من هيئة هادئة إلى مؤسسة حكومية تصدر أكبر عدد من الدراسات والتقارير سنوياً.
ثانياً: اكتسبت الطبقة العاملة والنقابات زخماً، مع تقدم الأجندة العمالية بسرعة.
ثالثاً: الإرادة السياسية، وصعود الثقة في حكومة يسارية كبحت مصالح المنتجين.
وقد ملأت تقارير مجلس «كوناسامي» فجوة في النقاش المستند إلى الأدلة، وهو ما أعاق التقدم سابقاً. ففي البداية، كرر القطاع الخاص فقط مقولة: إنّ رفع الحد الأدنى سيسبب تضخماً. لكن مع استمرار البيانات في إظهار تضخم منخفض، أو حتى أقل في مناطق الأجور الأعلى، فقدت حجتهم المصداقية. وبالمثل، أثبتت الأدلة أنّ سوق العمل المكسيكي احتكاري شرائي، وأنّ للحد الأدنى صفراً في الأثر على التوظيف. ومع كل زيادة، قاومها القطاع الخاص لأنها رفعت تكاليف العمالة، رغم استفادته غير المباشرة من زيادة الاستهلاك. ومع توافر البحوث، اقتنع القطاع في مناسبات عدة بفوائد تقوية السوق الداخلي عبر تحسين دخل العمال. أما النقابات، فكانت «خجولة وحذرة» في البداية، لكنها مع مرور الوقت صارت أكثر «مقاتلة»، حتى أنها قدمت مقترحات تطالب بزيادات أعلى من التقديرات الرسمية.
وبحلول 2025، بدا سوق العمل مختلفاً جذرياً. فقد شهدت النقابات انتعاشاً، إذ ارتفعت نسبة العمال المنضوين في النقابات من 12% في 2018 إلى 12.8% في 2024، أي زيادة تقارب مليون عامل نقابي. كما أنّ كل الحركات النقابية، حتى تلك المرتبطة تاريخياً بقوة الشركات والدولة، صارت تدعم زيادة الحد الأدنى، بعدما عارضتها لسنوات. واليوم تطالب أيضاً بزيادة أيام العطلات، وتحسين الضمان الاجتماعي، وتقليص ساعات العمل القانونية.
وأخيراً، شكّل فوز الرئيس لوبيز أوبرادور عام 2018 نقطة تحول. فقد كان مقتنعاً بضرورة التغييرات الجذرية في العمل والتوظيف. وعيّن مسؤولين حكوميين أكفاء من خلفيات عمالية. وخلال المفاوضات، تدخّل هو و «كوناسامي» ووزارة العمل مراراً لترجيح الكفة لصالح زيادات أكبر.
محكّ الدراسات
على مستوى العالم، يمثل الحد الأدنى للأجور قضية مثيرة للجدل في السياسات العامة. فمنذ دراسة «كارد وكروجر 1994»، تباينت الأدلة التجريبية حول أثره على التوظيف. هناك دراسات أظهرت آثاراً سلبية، وأخرى إيجابية، وأخرى معدومة. وبالرغم من الإجماع على أن رفع الحد الأدنى يحسن دخل من ينالونه، فإنّ مسألة الآثار السلبية المحتملة على التوظيف ما زالت مطروحة.
طرح اقتصاديون فرضيات عدة لتفسير تناقض الأدلة، منها: أسلوب اقتصاد قياسي، وأساليب قانونية، وأخرى تدرس الفوارق بين القطاعين الرسمي وغير الرسمي. كما برز اتجاه يدرس أثر «الاحتكار الشرائي».
وفي المكسيك، تزايدت الدراسات عن أثر السياسة الجديدة. ما يثير الاهتمام، هو أنّ الحد الأدنى صار يمس شريحة أكبر من العمال: 13.3% عام 2019، 24.3% عام 2020، 27.8 % عام 2021، 29.4% عام 2022، 28.8% عام 2023، و38.6% عام 2024. هذا يعني أنه يقترب تدريجياً من معدل الأجر العام.
وتظهر أحدث النتائج، أنّ الحد الأدنى لم يؤثر على التوظيف. ويرى الباحثون أن قدرة المكسيك على رفعه دون آثار سلبية تعود إلى تركّز السوق. فقد أظهر حساب «مؤشر هيرفيندال-هيرشمان» لمستويات التشغيل في البلديات أنّ المتوسط الوطني بلغ 0.81، مقابل 0.58 في أمريكا، ما يعني أنّ العرض الوظيفي محدود للغاية في معظم البلديات.
وتظهر النظرية، أنّ الأسواق الاحتكارية الشرائية تؤدي إلى أجور أدنى، ووظائف أقل، وأرباح فائضة للشركات. كما أنّ الإنتاجية تبتعد عن الأجور. وفي المكسيك، ارتفعت إنتاجية القطاع الصناعي أكثر من 160%، بينما لم ترتفع الأجور سوى 13.2% معظمها بفضل الزيادات الأخيرة.
وتبين دراسة حديثة، أن الحد الأدنى لا يؤثر على التوظيف في الأسواق التنافسية، لكنه يؤثر إيجاباً وبقوة في الأسواق الاحتكارية. فزيادة بنسبة 100% رفعت التوظيف 69.7% أكثر في تلك الأسواق مقارنة بالتنافسية. كما زادت الأجور بمعدل أعلى هناك.
ولّدت زيادات الحد الأدنى فوائد اجتماعية واقتصادية مهمة، خاصة للفئات الأضعف، دون أن تثير تضخماً أو تقلل الوظائف. فقد استفاد 8.4 ملايين عامل من الزيادة الأخيرة وحدها. وارتفع متوسط الأجر الحقيقي للمؤمن عليهم في «المؤسسة المكسيكية للتأمين الاجتماعي» بنسبة 25.6% فوق التضخم منذ 2018، مما زاد الاستهلاك المحلي.
كما خفّض الحد الأدنى الفقر: من أصل 5.1 ملايين خرجوا من الفقر بين 2018 و2022، خرج 4.1 ملايين حصراً نتيجة تحسين الأجور. وساعد في تقليص الفجوات التاريخية: فبين 2019 و2024، ارتفع دخل العمال الأدنى بنسبة 204.6% في الشمال و115% في بقية البلاد، فانخفض عدم المساواة 19.7%. كما تراجع الفارق بين الجنسين في الأجور 29% وطنياً و66% في مناطق النساء الأفقر.
لكن التحديات مستمرة. أهمها: رفع الحد الأدنى إلى مستوى «كريم» يكفي لتغطية 2.5 «سلة استهلاك أساسية» بحلول 2030.
ثانياً: تحديث «الأجور المهنية» لتعزيز قيمة عمل النساء.
ثالثاً: تحويل «كوناسامي» إلى «المؤسسة الوطنية للأجور الكريمة» بمهمة أوسع لمحاربة الاحتكار الشرائي، ورصد الممارسات التعسفية، وفرض العقوبات.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1242